البيان الذي ألقاه أبينا الأسقف ال بشأن تجريد أحد كهنة إيبارشيته، أعادنا إلى “المربع صفر” فيما يتعلق بإشكالية المحاكمات الكنسية، التي تفجرت مع مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، وكانت محل جدل ممتد شهدته صفحات مجلة ، وكانت القاطرة التي جرت خلفها فتح مِلَفّ الإشكاليات الكنسية، ويحسب لنيافته تفاعله مع ما حملته صفحات العالم الافتراضي متعلقًا بقراره هذا وحرصه على تفسير ملابساته برؤيته.

نعود لنجد أنفسنا أمام نفس الأسئلة التي طرحت قبلًا، عن ماهية المحاكمات الكنسية وأطرها ودرجاتها التي تضمن توفر أقصى حدود العدالة، وضوابطها، بين صلاحيات من يقوم عليها وحماية المقدمين إليها من عسف استخدام السلطة.

اللافت أن كنيستنا حتى اللحظة لم تقترب من منظومة المحاكمات هذه بتقنينها بوضع قانون ينظمها ويضبط إيقاعها عبر مواد قانونية عامة ومجردة وملزمة، تخاطب أطرافها، المحقق والقاضي والشهود والمقدم إليها، في الإطار الكنسي، مع أن أدبيات الكنيسة بتدرجها، من الكتاب المقدس إلى ما استقر من إلى قوانين المجامع المسكونية، إلى قوانين الآباء المعتبرين أعمدة، تناولت هذا الأمر وصارت مرجعيات ملزمة، ولكنها لم تترجم في عمل قانوني معاصر كما فعلت بقية الكنائس التقليدية، وتُرِكَ الأمر لتقدير الأب الأسقف.

وقد شهدت تلك السنوات التي تفجرت فيها أزمة المحاكمات الكنسية محاولات جادة للاقتراب المنهجي والموضوعي، تبلورت في سلسلة المؤتمرات العامة التي عقدها (2006 – 2010)، التي تضمنت ضمن أُطروحاتها بحوثًا تناولت تقنين المحاكمات الكنسية، وقدمت للكنيسة في حبرية قداسة ال، مشروع قانون ينظمها، عكف على إعداده وصياغته المستشار لبيب حليم لبيب نائب رئيس مجلس الدولة، وأعيد تقديمه لقداسة ال عقب إعلان اختياره ضمن مِلَفّ كامل عن رؤية التيار العلماني في الإشكاليات الكنسية وقتها، فضلًا عن دراسة مستفيضة وموثقة قدمها أحد الآباء الرهبان الباحثين في المؤتمر العلماني القبطي الأول (نوفمبر 2006) بعنوان التأديبات الكنسية في الكتاب المقدس والتقليد والقانون الكنسي.

ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى واحد من أهم الكتب التي تناولت بتدقيق وتوثيق أهم المحاور التدبيرية الكنسية ومنها “القضاء الكنسي”، وهو كتاب التدبير الإلهي في بنيان الكنيسة ديسمبر 2001، إعداد أحد رهبان برية القديس مكاريوس. (حسب البيانات التي حملها غلاف الكتاب).

والبداية مع المسمى الذي لا يتسق مع رسالة الكنيسة، التي تقر التأديبات الكنسية على غرار العائلة التي تؤدب أولادها ولا تحاكمهم، والسلطان فيها روحيًا وليس ماديًا، وهو “سلطان المحبة التي تظهرها الكنيسة تجاه أعضائها وسلطان الطاعة التي يظهرها المؤمنون ـ طواعية ـ تجاه الكنيسة” حسب تعبير أحد الآباء المعاصرين.

وغاية التأديبات الكنسية تتجاوز إنزال عقاب على المخطئ بل رده عن طريق ضلاله، وهنا تتضح فلسفة العقوبة الكنسية، وفي هذا يقول أحد الباحثين:

إن الحكم الكنسي -في حالة التأديب الكنسي على الأخص- يهدف إلى شفاء التائب. ومن هنا بدأ يظهر الخيط الذهبي الرعائي الذي يتغلغل في أحكام التأديب الكنسي في العهد الجديد، فهو تأديب للخلاص والشفاء وليس للعقاب والقصاص والانتقام، كما كان في مجتمع الدولة الرومانية القديم؛ للانتقام من فاعلي الشر [1].

ويحدد الباحث أهم سمات طقس التائبين وقانون التأديبات الكنسية في كنيستنا القبطية:

ـ التأديب الكنسي علاج وشفاءٌ من المرض الذي يكمن في نفس التائب.

ـ لابد أن يكون لقانون التوبة زمن محدد؛ هو “زمان التوبة”.

ـ كما أن ليس لكل الخطايا حكم واحد. كما تختلف أعمال التوبة المفروضة حسب أنواع الخطايا، كما يشرح ذلك الفصل الثامن من ال بأكمله:

ولا تحكموا حكمًا واحدًا على الخطايا كلها بل كقدر كل خطية، بفهم عظيم تفحصون كل واحدة من الخطايا… فبعضٌ تقمعهم بالتهديدات فقط، وبعضٌ تحكم بأن يعطوا رحمة للمساكين، وأقوام تحدد لهم أصوامًا، وآخرون تُخرجهم من البيعة إلى مدة معلومة

(فصل 68،70 من الدسقولية)

ونجد أمثلة لهذه الممارسات في: الرسالة القانونية للقديس غريغوريوس صانع العجائب [2]، وقوانين القديس [3].

ويورد الباحث استثناء جدير بالتوقف عنده: إنه استثناء الذين يشرفون على الموت وهم تحت التأديب الكنسي. فإنه كانت تُجرى مصالحتهم متضمنة نوالهم سر ال، كما أمر بذلك صراحة القانون 13 من المسكوني (سنة 325م)، كاستثناء من حرفية القانون يتَّصف بالرحمة والمحبة (التي لا تغيب أبدًا في كل معاملات خدام الكنيسة) في هذا الظرف الاستثنائي:

فيما يختص بالمحتضرين، فالقانون القديم لا يزال معمولًا به، أعني إذا أشرف شخص على الموت فيجب ألا يحرم الزاد الأخير الذي لا غنى عنه. أما إذا عادت إليه صحته وكان قد مُنح الشركة حين قطع الأمل من حياته، فليقف مع صف المشتركين في الصلوات لا غير. وعلى الإجمال، إذا احتضر شخص وطلب أن يُناوَل القربان فليمنحه الأسقف سؤاله بعد الفحص

(القانون رقم 13 من مجمع نيقية المسكوني)

كما يرد مثيل لهذا القانون في مجموعة قوانين القديس باسيليوس [4].

وفي الوثيقة الإيمانية الأولى (الكتاب المقدس) يؤسس ق. بولس في رسالتيه إلى كنيسة كورنثوس منهجًا كنسيًا رائدًا في قضية التأديب الكنسي، فبعدما أصدر قراره لشخص ارتكب واقعة (زنى محارم)، في رسالته الأولى:

أفأنتم منتفخون، وبالحري لم تنوحوا حتى يرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل؟ فإني أنا كأني غائب بالجسد، ولكن حاضر بالروح، قد حكمت كأني حاضر في الذي فعل هذا، هكذا: باسم ربنا يسوع المسيح – إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح – أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد، لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع.

(رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 5: 2-5)

ولأن الكنيسة لا تقر العقوبة المفتوحة، وهي تعاقب بحنو الأبوة، فقد بادر ق. بولس في رسالته الثانية بطلب العفو عن هذا المخطئ، لأنه أي القديس بولس يعيش في حالة حزن من أجله بكل مشاعر الأبوة فيقول لهم:

لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة، لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولا سيما من نحوكم. ولكن إن كان أحد قد أحزن، فإنه لم يحزني، بل أحزن جميعكم بعض الحزن لكي لا أثقل. مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من الأكثرين، حتى تكونوا – بالعكس – تسامحونه بالحري وتعزونه، لئلا يبتلع مثل هذا من الحزن المفرط. لذلك أطلب أن تمكنوا له المحبة. لأني لهذا كتبت لكي أعرف تزكيتكم، هل أنتم طائعون في كل شيء؟ والذي تسامحونه بشيء فأنا أيضا. لأني أنا ما سامحت به – إن كنت قد سامحت بشيء – فمن أجلكم بحضرة المسيح، لئلا يطمع فينا ، لأننا لا نجهل أفكاره.

(رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس 2: 4-11)

كانت إشكالية “المحاكمات الكنسية” تؤرق أسقف التعليم الأنبا شنودة حتى أنه أفرد لها افتتاحية (يناير وفبراير 1965)، أي المقال الأول للعدد الأول من المجلة الجديدة، وهى بمثابة بحث كتابي آبائي موثق يستعرض فيه أهمية المحاكمات الكنسية وضوابطها، ثم يختتمه بسؤال وإجابته؛ كان السـؤال:

ماذا يفعل الأسقف بالخاطئ بعد معاقبته؟… وكانت الإجابة: يقول الآباء الرسل في الباب الرابع من الدسقولية [أحد أعمدة الكتب القانونية الكنسية التراثية] والذي مال ياأسقف أعدله، لا تدعه خارجًا بل اقبله .. الذي ضل، إسأل عنه، بل يصل حنان الآباء الرسل إلى حد قولهم: فليحمل الأسقف على نفسه إثم ذاك الذى أخطأ، ويصيره خاصة له. ويقول للمذنب إرجَع أنت. وأنا أقبل الموت عنك، مثل سيدى المسيح.

(البابا شنودة الثالث “وقت كان أسقف التعليم”، مجلة الكرازة 1965)

وفي تاريخ الكنيسة المعاصر نجد في نهج قداسة ال السادس تطبيقًا عمليًا حياتيًا لمفهوم التأديبات الكنسية، باحتضانه للمشكو في حقه خاصة عندما يكون من الآباء الكهنة، ودعوته لملازمته في قداساته اليومية، إيمانًا منه بقدرة المذبح على تقويم المعوج وضبط حياته، وعودته خادمًا نقيًا غسلته صلوات الا وما اكتسبه من ملاصقته للبابا الحكيم.

وحسب بيان أبينا الأنبا ميخائيل فإن محاكمة القس صاحب الواقعة تمت بمعرفة لجنة تحقيق داخل الإيبارشية، واعتمدها الأب الأسقف وعرضها على قداسة البابا الذي فوضه في اتخاذ ما يلزم، لنجد أنفسنا أمام تحقيق وقرار تم برؤية الأب الأسقف، وتحت سلطته، وقطع الطريق على الأب الكاهن ـ المدان ـ لاستئناف القرار أمام جهة كنسية أعلى حسب ترتيب الدسقولية التي تعطيه هذا الحق، بنصوص واضحة، بأن يلجأ الى أو إلى البابا.

ولعل آباء مجمع الكنيسة برئاسة قداسة البابا يضعون نقطة في نهاية سطر مؤرق للكنيسة وقيد الانفجار، بتكليف لجنة مجمعية قانونية ينضم إليها رجال القانون من القضاة والمستشارين والفقهاء القانونيين من أبناء الكنيسة لوضع وصياغة تقنين منظومة القضاء الكنسي وفقًا لما تقول به المراجع الكنسية الكتابية والآبائية.

هوامش ومصادر:
  1. رسالة ى 2: 14 [🡁]
  2. الرسالة القانونية للقديس غريغوريوس صانع العجائب، رسالة رقم 11. [🡁]
  3. قوانين القديس باسيليوس، رقم 4، 56، 82. [🡁]
  4. قوانين القديس باسيليوس، القانون رقم 73. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨