أثارت مؤخرًا مسرحية La Putain respectueuse “المومس الفاضلة”  للفيلسوف الروائي (الملحد) “جان بول ” حفيظة شعبنا (المتدين بطبعه)، تلك المسرحية التي لا تتمالك نفسك في أثناء قرأتها عن استبدال أسماء الكثير من الشخصيات بأسماء واقعية وصور حقيقية معاشة. “ليزي” فتاة الليل، التي يطرق بابها زنجي يطلب منها العدل؛ فتعده بتحقيق العدل وتغلق في وجهه الباب، فهي منشغلة مع زبونها، الزائر الليلي: “فريد”، الذي طلب منها أن تغطي سريرها الغارق في الخطيئة من وجهة نظره، ولا يكف عن الاقتباس من الكتاب المقدس.

حاضر حاضر سأغطيه، إنه يفوح بالخطيئة. قل إذن أنها خطيئتك أنت عزيزي “فريد”

(ليزي – المومس الفاضلة)

يحكي الأب في مجموعته قصص قصيرة عن قصة الإشبين الغريب؛ حيث يقوم الأب البطريرك بالتحقيق في واقعة تعميد سيدة “مومس”، يشتكي الكل من سيرتها، فيخبره الأب الكاهن أنه عمدها بعد إصرار ثلاثة من شرفاء المدينة المشهود لهم بالبر والتقوى، ولكن عند مواجهتهم أنكروا أنهم يعلمون أي شيء عن هذا الأمر. فتم استدعاء تلك الـ”مومس” التي أقرت بأن الكل تهرّب منها عندما طلبت ضمانتهم لنوال ، إلا أن هؤلاء الأشراف الثلاثة تطوعوا دون أن تطلب منهم، وضمنوها وتمموا السر. فطلب الأب البطريرك إرشاد الرب لحل هذه المعضلة؛ فأعلن له الرب أن هؤلاء الثلاثة هم ثلاث ملائكة ظهروا في هيئة هؤلاء الأشراف لمساعدة تلك السيدة.

عندما تم سؤالها عن حياتها، قالت:

في صباي إذ كنت أسير بجوار حقل، وجدت إنسانًا ربط حبلًا على شجرة، ووقف على كرسي ليشنق نفسه، فتألمت جدًا. وذهبت إليه أساله: ماذا تفعل؟ أجابني بأنه قد استدان أموالًا كثيرة، وليس له ما يوفي به دينه، والدائنون يشكونه، لذا فكر في الانتحار. بكيت أمامه بمرارة، وقلت له: هل تضيع حياتك كلها من أجل الأموال؟ أجابني: ماذا أفعل وأنا عاجز عن الوفاء بالديون؟ قلت له: سأعطيك كل ما أملك، ولا تفعل بنفسك شيئًا.. بالفعل ترك الشجرة، وجاء معي إلى بيتي وقدمت له كل ما أملك من حُليّ وأموال، وافتقرت حتى مرَّت علىَّ ضيقة شديدة، فاضطررت أن أبيع جسدي للخطية مرة ومرات. إذ فقدت طهارتي تحوَّلت حياتي إلى النجاسة. هنا تنهد الأب البطريرك قائلا: إن الله ليس بظالم لينسى تعب محبتك.

المومس التي يعايرها الجميع ويتقززون منها؛ أحبها يسوع، وكانت في عيونه: قديسة، صانعة محبة، تستحق أن تنزل الملائكة من أجلها لتنعم عليها بنعمة المعمودية، وأن يتم إظهار قداستها، والتبكيت على ريائنا، المبني على مظاهر لا تمت لجوهر الإنسان بصلة. هذه المومس نجت من ويلات المرائين وفوقية الفريسيين بشكل معجزي، ربما لم تنج منه جدات يسوع ذاته.

وَيْلٌ لَكُمْ أَيّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ.

(يسوع، إنجيل متى 23: 27)

يكفي أن نلقي النظرة على سلسلة نسب يسوع المسيح، لنرى خمس سيدات تم اختيار ذكر أسمائهن، فنجد أربع منهن: راحاب الزانية، و من أقامت نسلا من حماها، والتي ل حيث يذكرنا الوحي بما فعل داود معها، وراعوث الموآبية حفيدة لوط من بناته. كل هؤلاء السيدات طبقًا لمعايير المجتمعات المحافظة بطبعها، كن: “مومسات”، ولكن طبقا لمعايير الله، فهن أكثر طهرًا من كل هؤﻻء المتشدقين بالطهارة والقداسة.

تحضرني هنا قصة من التراث الشعبي، أنقلها كما هي:

دخل الزوج فوجد زوجته تبكي، فسألها عن السبب فقالت أن العصافير التي فوق شجرة بيتنا تنظر ليّ حينما أكون دون حجاب وهذا قد يكون فيه معصيةً لله.
فقبلها الزوج بين عينيها على عفتها وخوفها من الله، وأحضر فأسا، وقطع الشجرة.
بعد أسبوع عاد من العمل مبكرًا فوجد زوجته نائمة بأحضان عشيقها !
لم يفعل شيئا سوى أنه هرب من المدينة كلها
فوصل إلى مدينة بعيدة، ووجد الناس يجتمعون قرب قصر الملك.
فلما سألهم عن السبب قالوا: خزينة الملك قد سُرقت.
في هذه الأثناء، مر رجل يسير على أطراف أصابعه فسأل من هذا؟
قالوا هو شيخ المدينة ويمشي على أطراف أصابعه خوفًا أن يدعس نملة فيعصي الله!
فقال الرجل والله لقد وجدت السارق أرسلوني للملك.
فقال للملك إن الشيخ هو من سرق خزينتك وإن كنت مدعيًا فاقطع رأسي.
فأحضر الجنود الشيخ وبعد التحقيق اعترف بالسرقة!
فقال الملك للرجل: كيف عرفت إنه السارق؟!!
قال الرجل: حينما يكون الكلام عن الفضيلة مبالغًا به، فاعلم أنه تغطية لجرم ما.

نعود لمسرحية “سارتر”، التي يرسم فيها بوضوح التناقض الصارخ بين أبناء العائلات (المحترمة) الذين يرددون آيات الإنجيل طوال الوقت، ويخدمون الكنيسة، وينعتهم الناس بالطيبين، وهم يقتلون المهمشين منهم بدم بارد، ويتهافتون على النساء، ملقين بالإثم عليهن وكأنهم بلا خطيئة، حتى وإن كانوا مشاركين فيها بالسلطة والفعل. مذكرينك بالـ”جلابية السوداء” التي حتى وإن ارتكب لابسيها أبشع الجرائم سيقومون بتقديسهم؛ وﻻ وجه للمقارنة هنا مع “فتاة الليل”، التي تمتلك بعضا من الفضائل الشريفة فلا تحنث بقسمها، وترفض الشهادة الزور ضد زنجي أسود حتى وإن كان ثمن ذلك هو حياتها، تُرى من فيهم أقرب إلى قلب الله ومن ينزل إلى بيته مبررًا؟!

لم يفت المسيح نفسه أن يشير إلى هذا التناقض في مثل الفريسي والعشار؛ وفي المثل الذي قدمه يسوع لسمعان عندما تشكك عند رؤية العاهرة تلمس قدميه، مفحمًا إياه قائلًا:

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ، لأَنّهَا أَحَبّتْ كَثِيرًا. وَالّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلًا.

(يسوع، إنجيل لوقا 7: 47)

فالفيصل هنا هو المحبة الحقيقية لا التقوى الظاهرية.

والمومس الصادقة، أفضل عند الرب من أسقف متبتل ومتستر على خادم يغتصب الفتيات.

عندما يكافح أيًا منا تصرفات معيبة وجرائم مستمرة يشارك بها أو يديرها أحد القادة الكنسيين؛ تنهال عليه اللعنات والاتهامات طالبة منه الخرس وعدم مقاومة الشر حتى بالرأي ووجهات النظر! وعندما يتجاسر أحد إلى وصف بعض الواقع بأمانة ودون تجميل للقبح، أو عندما يلتزم بقول الحق عاريًا مجردًا من زيف النفاق أو مهادنته، وتابعًا المسيح الذي هو الطريق والحق والحياة. لا يرون في هذا إلا غضب غير مبرر، ويتصيدون لك ويتهمونك ويقصونك عن دائرة المسيحية. تاركين الجريمة وضحاياها وفاعليها والمتسترين عليها والممولين لها، فانطبق عليهم قول المسيح:

أَيُّهَا الْقَادَةُ
الْعُمْيَانُ!
الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ
وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ.

(يسوع، إنجيل متى 23: 24)

 

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

Objection
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎