مع كل سيمنار أو اجتماع لمجمع أساقفة كنيسة الإسكندرية القبطية الأرثوذكسية، يخرج علينا مجموعة الأساقفة “إياهم” [1] ببيانات أقل ما توصف أنها “خايبة”، تحتوي على كلام مرسل يدعون من خلالها خوفهم على الكنيسة وحماية الإيمان -وكأنه طفلة قاصر- ولكن تصرفات بعضهم تظهر عكس ما يدعون، وأصبحت نَغْمَة “حماية الإيمان” سخيفة ومملة سواء من هؤلاء الأساقفة أو لجانهم المأجورة على مواقع التواصل الاجتماعي.
فجأة وبدون مقدمات خرج علينا في هذا الأسبوع بيان بتاريخ 11 أكتوبر 2024، عليه أسماء 17 مطران وأسقف من داخل مصر وخارجها دون توقيعات، يعترضون على المشاركة في السيمنار المنعقد بين 18 إلى 21 نوفمبر المقبل بدعوى وجود شخصيات تم دعوتهم لإلقاء محاضرات على أساقفة المجمع ولديهم اعتراض على أفكارهم وتعاليمهم، وطالبوا في الخطاب الموجه للبابا تواضروس والأنبا دانيال سكرتير المجمع بتغييرهم.
ثم مع موجة الغضب التي ظهرت كرد عبر مواقع التواصل الاجتماعي من البيان والأساقفة الموقعين عليه، خرج بعض من “صبيانهم” ولجانهم على السوشيال ميديا للتشكيك في البيان والادعاء بأن بعض ممن ذكرت أسمائهم من الأساقفة غاضبين لأنه تم وضع أسمائهم دون موافقتهم، إلا أن هذا الادعاء لم يدم طويلًا، فقد ضم عليهم 2 أساقفة عموم في تسجيلات فيديو تالية يعلنون تأييدهم لهذا البيان والأساقفة الموقعين عليه ما ينفي أي ادعاء بأن بعضهم لم يرغب في وجود اسمه، حيث لم يصدر أي نفي رسمي من أي أسقف حتى كتابة هذا المقال.
اللافت للنظر أنها ليست المرة الأولى، التي يصدر فيها مثل هذا البيان، ففي يونيو عام 2019 وقبل اجتماع المجمع السنوي أصدر 4 أساقفة 3 منهم ممن وردت أسمائهم في البيان الأخير، وأحدهم ظهر في فيديو قصير يدعمهم، بيانًا عرف إعلاميًا باسم “بيان الأساقفة الأربعة”، يتحدثون أيضًا عما أسموه “تعاليم خاطئة”، وكان موجه بالأساس ضد “مدرسة الإسكندرية اللاهوتية” التي أسسها الراهب سيرافيم البراموسي، في محاول لإحياء نهج المدرسة الفلسفية واللاهوتية القديمة للكنيسة، التي انتشرت طيلة القرون الأربعة الأولى وبفضل أساتذتها وأكاديميها اكتسبت كنيسة الإسكندرية شهرتها اللاهوتية، قبل أن ينقض عليها سلطان الجهل ويطارد مديرها وأساتذتها.
أما في هذه المرة فالأسماء المستهدفة هم دكتور جوزيف موريس فلتس أستاذ اللاهوت، والمهندس سينوت دلوار شنودة المهتم بالتأريخ الكنسي، فبمجرد إعلان جدول أعمال السيمنار صدر بيان الأساقفة يطالب بتغييرهم، لكن كان رد الفعل على بيان الأساقفة كبيرًا ودعا البعض البابا تواضروس وسكرتارية المجمع باتخاذ موقف قانوني وفقا لقوانين الكنيسة مع هؤلاء الأساقفة والمطارنة واعتبروا بيانهم بمثابة إعلان انشقاق ويشق وحدة الكنيسة.
قد يبدو أن هذه البيانات غَيْرَة على الإيمان وخوفًا على الكنيسة ولكنها في حقيقة الأمر تكشف عن العطب الذي أصاب جسم الكنيسة ليس اليوم، ولكن منذ أن استخدم البابا “الأمي/ الجاهل” ديمتريوس الملقب بـ”الكرام” رقم 12 في سلسال بابوات الإسكندرية سلطانه الكهنوتي ضد العلامة أوريجانوس مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية في الربع الأول من القرن الثالث الميلادي، فقد طرد البابا ديمتريوس أوريجانوس، وتجاوز قوانين الكنيسة من أجل حرمانه وطرده من الإسكندرية وطارده خارج مصر، ومن يومها والأكاديميين والمفكرين والدارسين مطاردين في الكنيسة، ويجلس على الكرسي المرقسي غير المتعلمين أو أنصاف المتعلمين، بعدما جلس خلف مار مرقس مؤسس الكنيسة في الإسكندرية 10 بطاركة من الثاني وحتى الحادي عشر وكانوا جميعا مدرسين في مدرسة الإسكندرية اللاهوتية.
نفس الأمر تكرر على يد البابا شنودة عندما طارد الأب متى المسكين أستاذه في الرهبنة، بسبب كتاباته التي اعتمدت بشكل كبير على تَرْجَمَة فكر آباء الكنيسة من اللغة اليونانية التي لم يكن يتقنها البابا شنودة، وتكرر الأمر مع الدكتور جورج حبيب بباوي الذي اصطفاه البابا مقدمًا وقربه منه وشارك معه في سفره للفاتيكان، كما فعل ديمتريوس مع أوريجانوس وعينه مدير مدرسة الإسكندرية، ثم انقلب عليه، فكذلك انقلب البابا شنودة على الدكتور بباوي منذ عام 1984 بعدما رفض الأخير طلب البابا بمراجعة كتب الأب متى المسكين ومحاولة إخراج أخطاء منها، حسب ما ذكر بباوي في لقاء “أون لاين” حضرته معه قبل وفته بعدة أشهر.
واجه الدكتور بباوي حملة شعواء من البابا الراحل وبعض رجاله مثل الأنبا بيشوي مطران دمياط الراحل، انتهت بحرمان بباوي بقرار وقع عليه البابا شنودة و66 أسقفًا دون محاكمة قانونية، في قرار هو بمثابة “عار” في تاريخ الكنيسة أتمنى أن يأتي “بطريرك” يعتذر عنه وعن الحرمان الذي طال أوريجانوس باالباطل أيضًا، وغيرهم من الأكاديميين، كما فعل البابا فرنسيس واعتذر عن كثير من الأمور السيئة التي جرت في تاريخ كنيسة روما الكاثوليكية.
الأمر الأخير الذي أود مناقشته في هذا الموضوع هو اعتقاد قطاع كبير من أصحاب العمم المنتفخة من حاملي عصا الرعاية أنه لكونه نال رتبة الأسقفية فهو العلامة الذي يجب أن يتعلم منه الجميع، ولا يجب أن يجلس في مَقْعَد المتعلم، وللأسف لا يوجد تعليم أكاديمي حقيقي في كنيستنا يحصل عليه الأساقفة والرهبان والكهنة قبل اختيارهم للخدمة، كما يحدث في الكنائس الأخرى، بالتالي من لم يتعلم جيدًا ويملك سلطان مطلق يقول إنه من الله ويستطيع أن يحل ويربط، وأعتاد أن يهابه الجميع ويقولون له: نعم فقط، لا يمكن أن يقبل وأغلبهم تجاوز سن الـ60 أن يجلسوا في مَقْعَد التلميذ داخل السيمنار، ويتعلمون على يد علمانيين أكاديميين يجب أن يقبلوا أيديهم، أو آباء كهنة أقل منهم في الرتبة الكنسية.
وهذا ما بدأ يلفت نظر بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين استحضروا جملة للفنان حسن مصطفى (الناظر عبد المعطي) في المسرحية الشهيرة مدرسة المشاغبين:
بقى يا بنتي عايزين يعينوا مُدرسة معاها دكتوراه، وأنا ناظر ومعايا إعدادية.(الناظر عبد المعطي، مسرحية مدرسة المشاغبين)
هذه العبارة كنت كتبت عنها منشور في عام 2020 بأنها تلخص واحدة من أزمات الكنيسة العميقة، وحلها كان في جلوس الأكاديميين على كرسي مار مرقس وليس الرهبان، فحتى لا يشعر الجالس على الكرسي بنفس شعور الناظر عبد المعطي أمام المُدرسة يجب أن تصحح الكنيسة منظومة التعليم وأن تسعى لوجود كليات ومعاهد معتمدة أكاديميًا يدرس فيها أبنائها وكل من سيدخل في سلك الكهنوت أو الأسقفية أو البابوية يجب أن يتم دراسته الأكاديمية المعتمدة ولا يتعين أسقفًا إلا من أجرى دراسة الماجستير والدكتوراه في أحد الفروع اللاهوتية والعلوم الإنسانية.
لأنه غير ذلك سنظل ندور في دائرة مفرغة نهايتها ستكون انقراض كنيستنا التي عاشت على مدار 2000 عام وقاومت الكثير والكثير من الظروف الصعبة والخارجية، ولكنه ستنقرض على يد أولادها، فجيب أن نمنح الفرصة ولدينا بالفعل بعض من الأساقفة والرهبان والكهنة والشباب من درسوا دراسات أكاديمية محترمة ويمكن أن نبني عليهم وعلى مجهودهم ليكون نواة لانطلاقة حقيقة نحو نور العلم والمعرفة بدلا من سيطرة شبكات الفساد والمصالح بسلطان الجهل.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- بعيدًا عن ضوضاء العالم على قمة أحد تلال الجبال الملاصقة للدير يقف شامخًا متواضعًا راهب من أحد الأديرة العامرة، واحد من أُناس الله الأتقياء الكثيرين الذين تركوا العالم واتجهوا إلى الصحراء ليتفرغوا للعبادة بعيدًا عن صخب العالم واضطراباته، هروبًا من الكثير مما قد يشغل النفس البشرية عن مسعاها الأبدي في معرفة الله والاتحاد به، وهو ما يجب أن يكون......