من يعرفني بشكل شخصي، يعلم كم أحب "كليف ستيبلز جاك لويس" [أو "سي. إس. لويس"] وكم تأثرت بكتابته، وللأسف لا يحظى هذا الرجل -الذي يعد أحد عمالقة الأدب واللاهوت في القرن العشرين- بالقدر الكافي من الشهرة والصيت بين مسيحي اليوم. بالطبع، يحظى "لويس" بشعبية لا بأس بها في الكنيسة الإنجيلية لأنها كنيسته الأم؛ لكنه لا يحظى بالمكانة ذاتها عند الطوائف الأخرى. لذلك، دعونا نتحدث اليوم عن هذا المفكر الرائع، وعن أهم كتاباته التي ستجد فيها نبعًا من الإلهام والاستنارة.
من الإلحاد إلى الإيمان
عاش “سي. إس. لويس” كملحد في فترة شبابه، وكان لا يأبه بشيء إلا العلم والخدمة العسكرية، على حد وصفه في كتابه “أدهشني الفرح”. أما عن قصة رجوعه للمسيحية، فهي من أشد القصص غرابة؛ فما جذب “لويس” للعالم الروحي هي تلك الأشعار الروحية لـ”جون ميلتون”، وكتابات “أفلاطون” الوجودية!
كانت تلك الأشعار والتراتيل البسيطة بمثابة مفتاحًا أمام “لويس” لفتح مصاريع ذلك العالم السحري. فعلى الرغم من احتقاره للدين، وسخريته من أصدقائه المتدينين، كان لا يستطيع أن يمنع نفسه من قراءة تلك الأشعار التي كانت تطير به خارج العالم المادي، ليجد شعورًا عجيبًا يملأه على الرغم من إيمانه بأن تلك الكتابات هي من “أكاذيب الشعراء.” أحب “لويس” أكاذيب الشعراء خلسة، وشعر بأنه من المحال ألا يوجد عالم روحي وراء ذلك العالم المادي الجامد بما أن شيئًا ما يرتج بداخله بسببها، إلى أن أصبح مسيحيًا عام 1930.
لم يعتقد “لويس” يومًا أنه قد سوى صراعته الفكرية كليًا، لكن هذا لم يمنعه من أن يكون مؤمنًا. وهو يعبر عن تلك الحالة ذاتها في قصته الرائعة “حكايات نارينا” أنه قد اختار أن يكون مسيحيًا حتى لو كانت المسيحية وهم؛ لأن ذلك الوهم هو بالطبع أفضل من فراغ الواقع. قال “لويس” إنه حتى لو كان المسيح خيالًا وليس حقيقة؛ يكفي أنه يجعل البشر قديسين؛ لذلك، قرر “لويس” أن يحافظ على ولائه إلى ذلك العالم الروحي الجديد. تلك العقيدة البسيطة هي ما جعلت “لويس” يحفظ إيمانه رغم كل شيء.
الله يتحدث في الأساطير الوثنية
من أهم أسباب حبي لـ”لويس” هو ولعه الشديد بالأدب، وبالأخص الأساطير القديمة. طالما تعجب “لويس” من رفض المسيحيين للأساطير، وخوفهم من التحدث عن الأساطير التي تتشابه مع قصص شهيرة في الكتاب المقدس حتى لا تكون سببًا للعثرة، والوقوع في براثن الشك في تاريخية النصوص المقدسة. كان يقول إنه من السخف أن نظن أن الله تحدث إلينا فقط في الكتاب المقدس والكتب اللاهوتية، فالأساطير الوثنية كانت إحدى تعاملات الله مع الشعوب القديمة. وطالما أن الكتاب المقدس يدور حول حقائق روحية، لا يهم أن يكون تاريخيًا بشكل كامل. كما وصف الأساطير الوثنية أنها جاءت تمهيدًا لمساعدة البشر على قبول التدبير الإلهي. لذلك، لا نتعجب أن وجدنا الكتاب المقدس يتبع ذلك النهج الأسطوري ويقتبس الأساطير بالأخص لأن تلك الأساطير كانت تمثل معتقدات البشر آنذاك.
أكن عميق الاحترام حتى للأساطير الوثنية، وهذا لا يمنع أن لديّ احترام أكبر لأساطير الكتاب المقدس. وأعتقد أن التفسير الذي يقول إن تفاحة جنة عدن تعد رمزًا خياليًا يحتوي على حقيقة أعمق بكثير من ذلك التفسير الذي يتعامل مع التفاحة من منظور حرفي.(سي. إس. لويس – مشكلة الألم)
عشقه للفن
أبدع “سي. إس. لويس” في وصف جمال الرمز والقصة الخيالية. فهو يصف الأدب على أنه السبيل الوحيد للاستمتاع والمعرفة في تجربة واحدة. ويقول “لويس” إننا جميعًا في حاجة ماسة للقصص، والروايات، والأشعار، لأن الإنسان لا يستطيع وصف ما يتعرض له من تجارب بنفسه، وبخاصة وهو داخل التجربة، ودومًا ما يحتاج لقصة خيالية من خارجه، تصف تجربته، وتشعره أنه داخل التجربة، ويمكنه الإحساس بها، واختبارها، وفي نفس الوقت يستطيع أن يفكر فيها بعقلانية وحيادية، لأنه لم يعد داخل القصة تمامًا. هذا هو دور الأدب، والفن، حسب وصف “سي. إس. لويس”، ومن النادر أن تجد لاهوتيًا مخضرمًا يبدع في وصف قيمة الفن والأدب بهذه الدرجة من الجمال.
حين يتوقف ألم أسناني، سأكتب فصلا جديدا عن الألم. لكن، إن توقف ألم أسناني، هل سأستطيع إدراك معنى الألم حينها؟(سي. إس. لويس – الله في قفص الاتهام)
رأيه عن خلود الحيوانات
كان “لويس” من محبي تربية الكلاب والقطط بشدة، وكان يسأل هل حين يموت ويذهب إلى السماء، سيلتقي بحيواناته أم لا.
بالطبع، تعجبت بشدة من طرحة للموضوع لأنه لم يخش سخرية القراء منه، وهو معروف بكتاباته الجادة!
كما يشرح في كتابة “مشكلة الألم” أن قيام الحيوانات الأليفة بعد الموت ليس أمرًا مستحيلًا أو مرفوضًا؛ فإذا كان الحيوان ليس له شخصية أو كينونة، ولا يعي من هو، لا مانع من أن يقيمه الله إذا كان جزءًا هامًا من حياة إنسان تقي من أجل هذا الإنسان.
يبدو من الممكن بالنسبة لي أن يكون لبعض الحيوانات خلود، ليس في ذاتها، بل في خلود أسيادها … أو بمعنى آخر سيعرف الإنسان كلبه، والكلب سيعرف صاحبه. أما إدراك الحيوان لنفسه فهو أمر ليس له معنى، لأن الحيوان ليس له إدراك.(سي. إس. لويس – مشكلة الألم)
قديس من نوع آخر
اعتدنا على تلك الصورة النمطية للقديس الذي تظهر عليه هالة نورانية، ويبدو وجهه كأيقونة يسيل منها زيتًا مقدسًا لا ينضب، تلك الصورة للقديس المثالي، البعيد كل البعد عن طبائع البشر. لكن ما يعجبني في “لويس” هو أنه لم يحاول التظاهر ليبدو على هذه الصورة، بل على النقيض، كان به من النقاء ما يجعله يتحدث عن عيوبه وصراعته على الملأ. وكان شجاعًا بالقدر الذي يجعله يفعل ما يريد طالما أنه مقتنع أنه ليس على خطأ، حتى وإن عارضه الناس. لذلك، لا تتعجب إن وجدت صورة له وهو يدخن السجائر أو يمسك بكأس من الخمر.
كان لـ”لويس” رأي مميز حول موضوع ما يحل وما لا يحل. فهو يقول إن ما يهم هو حرية الإنسان من جميع الأشياء؛ ألا يتسلط على الإنسان شيء، حتى الأشياء العادية، أو المقبولة مجتمعيا، وليس أن يكون الشيء محرمًا أو معيبًا في ذاته. فمثلا، القهوة ليست محرمة وليست مسكرة مثل الخمر؛ لكن هذا لا يعني أن تبالغ في شربها. لذلك، لا يهم ماذا تشرب أو ماذا تفعل؛ المهم هو أن تعتدل فيه.
لا يشمل الاعتدال المسكرات فقط، بل جميع الملذات. ولا تطالب المسيحية بالامتناع الكلي عن الأشياء بل الاكتفاء بالقدر السليم وعدم تخطيه … لقد نتج أذى كبير من تقييد كلمة الاعتدال حول المسكرات فقط؛ فهذا يسهم في إنساء الناس أن يكونوا معتدلين في أشياء أخرى. فالرجل الذي يجعل كرة القدم مركز حياته … هو غير معتدل تمامًا مثل الرجل الذي يسكر كل ليلة. إنما بالطبع، لا يظهر ذلك في العلن. فكرة القدم لا تجعلك تترنح وتسقط على الطريق. لكن الله لا تخدعه المظاهر.(سي. إس. لويس – المسيحية المجردة)
وحين ماتت زوجته “جوي ديفيدمان” بالسرطان بعد ثلاث سنوات فقط من الزواج، كتب لويس كتابه “ألم ملحوظ” الذي عبر فيه عن كل الغضب الذي بداخله بصورة جعلت البعض يظن أنه عاد إلى الإلحاد من جديد. كان هذا الكتاب بمثابة ثورة عارمة وصرخة ألم وغضب، عبر فيه عن ألم الفقدان، واليأس والخذلان بعد الأمل.
وبالطبع، لم يعجب هذا الكتاب المجتمع المسيحي، والبروتستانتي بالتحديد. لأن البروتستانتي يعشق الانتصارات والتهليل بطبيعته. أما “لويس”، فهو لم يبال بهذا، لأنه يعلم أن المسيح قد سبق وصرخ صرخة مشابهة حين قال إلهي إلهي لماذا تركتني
.
لم يهتم لويس بمظهره أمام العامة؛ فقد كان حريصًا على خوض تجربته الشخصية بصدق عالمًا أن الله ينظر إليه من الداخل.
إلى أن نمتلك وجوهًا…
ربما كتابي المفضل على الإطلاق للويس هو تلك الرواية الأخيرة التي كتبها عن حياته قبل رحيله والتي سماها “إلى أن نمتلك وجوهًا”. يرمز الوجه في الرواية إلى عدة أشياء، أهمها شجاعة التفكير والبحث. تدور الروية حول بطلة تدعى “أورويل”، وهي فتاة تعيش في زمن قدماء اليونانيين، وهي عكس غالبية المجتمع، لا تؤمن بآلهة اليونان. ترتدي “أورويل” نقابًا على وجهها خوفًا من مواجهة العالم.
يسافر “لويس” بهذه الشخصية إلى أبعد الحدود، ملقيًا الضوء على مناهج التفكير المختلفة كالمنهج العقلاني الذي يحد الله بالعقل المحض، والمنهج الشعوري الذي يلقي بالمنطق عرض الحائط. ويوضح “لويس” عيوب ونواقص كلا المنهجين. لكن تبدو حقيقة واحدة واضحة طوال القصة هي أن الآلهة لا تكشف عن نفسها لمن اختاروا أن يغطوا وجوههم، ويذوبوا في المجتمع بلا شخصية. لن تلتقي الآلهة بالبطلة إن لم تنزع ذلك القناع، وتوضح شكواها وأسئلتها.
قدم “لويس” تلك الفكرة في كتاب آخر له وهو “رسائل خربر”، وهو عبارة عن رسائل يقدمها الشيطان “خربر” لتلميذه من الشياطين الصغار ليعلمه كيف يوقع البشر في الشر، ويبعدهم عن العدو (الله).
يقول “خربر” لتلميذه إن اصطياد البشر وفصلهم عن العدو يبدأ بفصل الإنسان عن نفسه، لذلك، على الشيطان أن يجعل الإنسان يذوب في الجمع ذوبانًا، ويردد ما يحفظه دون وعي، يذهب إلى الكنيسة، ويتخذ منها هويته، ويردد ما يقوله الناس عن العدو كمسجل مكسور، دون اختبار شخصي، فالعدو يريد البشر متمايزين، متفردين، أما “خربر” وتلامذته، فهم يريدون البشر نسخا مكررة.
السماء هي حالة التحقق الأبدي
يقول “لويس” عن السماء إنها حالة سعادة وتحقق كامل، لا نعرف ماذا تكون بالتحديد؛ فكل الصور الكتابية هي مجرد صور أدبية لوصف حالة مستقبلية بعيدة لا يمكن فهمها الآن. لذلك، من الخطأ أن نظن أن السماء عبارة عن ترانيم وتسابيح بلا توقف. فبالطبع، لا يقصد الكتاب أننا سنفعل هذا إلى ما لا نهاية. والأشياء التي يذكرها الكتاب مثل الأكاليل، والذهب، والمزاميز ترمز لما هو أبعد من ذلك بكثير. ربما يخلق الله عوالم جديدة، ونكون في حالة مختلفة، ولدينا أدوار مختلفة. المؤكد أننا سنكون في حالة تحقق وفرح. ويقول لويس ساخراً:
إن الكتاب المقدس كتابًا أدبيًا، كُتب لأناس بالغين، عقلاء. لذلك، ليس من المفترض أن نأخذ رموزه بشكل حرفي. فهل حين قال المسيح كونوا كالحمام، كان يقصد أن نكون كالحمام بشكل حرفي، ونبيض البيض؟(سي. إس. لويس – الأعمال الكاملة)
إن الحديث عن “سي. إس. لويس” يلزمه مجلدات، ولن ينتهي. لذلك، إن كنت لم تقرأ له بعد، ربما حان الوقت لتفعل ذلك. وما يميز “لويس” أنه لم يكتف بنمط واحد من الكتابة، فله كتابات لاهوتية مثل “المسيحية المجردة” الذي يعد من أهم ما كتب للرد على الإلحاد، وكتابات قصصية مثل حكايات نارنيا الذي تحول إلى سلسلة أفلام شهيرة تحكي عن أربعة أطفال يخوضون تجربة الذهاب إلى “نارنيا”، تلك المدينة التي يحكمها الأسد “أسلن”، وتتعرض للهجوم من قبل جيش ساحرة العالم السفلي. ويستخدم لويس “نارنيا” كرمز للمدينة السماوية، أو الخليقة الجديدة، كما يرمز الأسد “أسلن” إلى المسيح، وترمز الساحرة إلى قوى الشر.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟