على الرغم من أن المسيحية قائمة على الحب، والدعوة الرئيسية للسيد المسيح كانت الحب، والهدف الأساسي لتجسد الكلمة هو الحب، وأهم تعريف لله في المسيحية هو أنه “محبة”، إلا أن كنيستنا القبطية تخاف من الحب، وغالبية تعاليمها طوال العقود الخمسين الأخيرة تبتعد عن الحب، وجعلت أتباع الكنيسة القبطية يخافون من الحب، ونتيجة لتجذر هذا الخوف من الحب فأصبح الآباء يخشون منح الحب لأولادهم بل صدروا لهم هذا الخوف من الحب.
قبل أن تتهمني بالافتراء على كنيستنا أو التعميم أو إطلاق أحكام مطلقة، سأدلل على كلامي بأدلة واضحة وبمواقف واضحة يختفي فيها الحب، أو يتم تصدير فيها مشاعر الكراهية بدلا من الحب أو تصدير الخوف من الحب، وسنرى هل أفتري أم أتحدث عن شيء ملموس؟
التخويف من الحب وفشل العلاقات الزوجية
منذ سنوات طويلة دأبت الكنائس على فصل الأولاد والبنات في مدارس الأحد منذ سن إعدادي وأحيانا منذ سن ابتدائي، ولا يأتي هذا الفصل إلا خوفا من ارتباطهم بعلاقات عاطفية في هذه السن المبكر، وتبدأ في هذه الفترة توعية عكسية لإخافة الفتيان والفتيات من الحب والارتباط، وأنا شخصيًا مررت بهذا في مدارس الأحد خلال سن إعدادي وثانوي وحتى في الجامعة حينما حضرنا أول اجتماع لأسرة كلية آداب جامعة عين شمس فحذرنا أمين الخدمة من الارتباط، وكان المطلوب مننا أن نقهر مشاعرنا الطبيعية، ومشاعر الحب التي تتولد بداخلنا في ذلك السن، وبدل من مساعدتنا على توجيهها بشكل صحيح تم تحذيرنا وكأنها خطية كبرى ولا يجب أن نشعر بهذه المشاعر.
ليس خفيا أنه يوجد حالات طلاق مرتفعة بين المسيحيين خصوصا المنتمين إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولعلنا نتذكر شهر يوليو 2011، ومظاهرات أصحاب قضايا الأحوال الشخصية أمام باب المجلس الإكليريكي بالكاتدرائية، ومحاولة تفريقهم باستخدام كلاب الحراسة الخاصة بالمقر البابوي في ذلك الوقت فيما عرف إعلاميا باسم “موقعة الكلب“، ألم نسأل لماذا وصل هؤلاء إلى الفشل في زيجاتهم؟ هل هو الأمر وليد اللحظة داخل الحياة الزوجية، بل أساساها التنشئة ومسؤول عنها بشكل رئيسي خطاب الكنيسة الذي يغيب عنه الحب، وخصوصا في مدارس الأحد التي تساهم في تنشئة الأطفال والشباب، إضافة إلى غيابه عن الآباء والأمهات، وبالتالي ننشأ محرومين من الحب.
خطاب كراهية مستعر تجاه المستنيرين والكنائس الأخرى
مثلما نمّى تنظيم داعش الإرهابي المتطرف حول وداخل دولنا في المنطقة التي توجد بها مصر وتسمى الشرق الأوسط، بالتزامن مع ظهور هذا التنظيم المتطرف والذي استشهد على يده عشرات الآلاف من بينهم 21 مواطن مصري مسيحي في ليبيا في فبراير 2015، ظهر تنظيم آخر متطرف داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يطلقون على أنفسهم “حماة الإيمان”، ويعتبرون أنفسهم أصحاب التوكيل الحصري للإيمان الأرثوذكسي، ويطلقون على أنفسهم أنهم “أبناء البابا شنودة الثالث”، هؤلاء يحرضون على صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي ضد من أطلقوا عليهم “المستنيرين” من أبناء الكنيسة القبطية من لا يأتون على هواهم أو هوى من يحركهم ويمول تلك الصفحات.
هؤلاء المتطرفون من داخل الكنيسة يهاجمون العلم والتعلم وأي محاولة للدراسة لنفض التراب الذي أنهال على كنيسة الإسكندرية منذ أن انعزلت عن بقية الكنائس عقب مجمع خلقيدونية في 451م، واضمحلال مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، بعد أن تخلينا عن اللغة اليونانية لغة اللاهوت والفلسفة وتمسكنا بلغتنا المصرية القديمة بحروف يونانية والتي يطلق عليها اليوم “القبطية”، ثم مرة أخرى نتخلى عن لغتنا المصرية إلى اللغة العربية، فتحدث قطيعة معرفية مع تراث آباء كنيستنا مثل أوريجانوس وأثناسيوس وكيرلس الكبير.
هؤلاء الموتورون يهاجمون البابا تواضروس، وهاجموا من قبل الأنبا إبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار، واتهامه بالهرطقة إلى أن قُتل على يد راهب فاسد تم استبعاده من الرهبنة عقب جريمة القتل وحكم عليها بحكم قضائي بات بالإعدام وتم تنفيذه، كما تتم مهاجمة الأب سيرافيم البراموسي مؤسس مشروع مدرسة الإسكندرية، وهو مشروع دراسي ومجهود كبير في محاولة لإعادة إحياء المدرسة اللاهوتية القديمة، وأخر هذه المحاولات بعد أن استضاف الأنبا بفنوتيوس مطران سمالوط الأب سيرافيم البراموسي ليقدم محاضرة لكهنة الإيبارشية.
هؤلاء الموتورون هاجموا الكنائس الأخرى وخاصة في كل مرة يلتقي فيها البابا تواضروس قيادة كنسية من كنيسة أخرى مثلما فعلوا عندما التقى بالبابا فرنسيس في القاهرة في نهاية أبريل 2017، وهاجموا ومعهم عدد من الأساقفة اتفاق “عدم إعادة المعمودية” بين كنيستي روما والإسكندرية، إلى أن تم تعديله بسبب ضغوطهم وابتزازهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
فبدلا من توجيه خطاب المحبة الذي دعانا السيد المسيح لأن نقدمها للك ليس لإخوتنا فقط بل لإعدائنا يتم التحريض على العنف ومهاجمة الآخرين وبث الكراهية على يد هؤلاء الموتورين باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وكأن الإيمان والكنيسة كـ”مؤسسة” أصبحوا صنم جامد لا يجب أن يتطور ولا يتغير ويجب أن نبقي عليهم كما تركهم البابا شنودة كما يدعون، ناسفين عمل الروح القدس الحي والفعال والمستمر في الكنيسة كوعد المسيح.
هذا الخطاب المفعم بالكراهية لا يقدمه بعض الجهلاء أو لجانٍ إلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي، بل يقدمه بعض من الأساقفة والكهنة تجاه الكنائس الأخرى، فأحد الأساقفة محدودي العلم والثقافة وفقا لتاريخه التعليمي المعروف يخرج علينا كل أسبوع ليحدثنا عن دين عالمي جديد وأن مؤامرات لا توجد إلا في عقله وخياله فقط، ويوجه خطاب كراهية تجاه الكنائس الأخرى ويفتعل معارك غير حقيقة وغير مطلوبة مع الآخرين على طريقة الفارس الهُمام “دون كيخوته” الذي يحارب طواحين الهواء ورسمه بريشة أدبية ساخرة الأديب الإسباني الشهير ميجيل دي ثيربانتس سابدرا.
متى نعود لخطاب المحبة الشامل؟
ما أذكره هنا عن خطاب الكراهية لا يقدمه كل أبناء الكنيسة القبطية، بل بعضًا منهم، لكن للأسف صوتهم يظهر وسط مواقع التواصل الاجتماعي وكأنه لا يوجد إلا هم، فمن يقدمون تعاليم المحبة الحقيقة لا يحتاجون إلى الظهور بل ويؤدون دورهم في صمت، أما هؤلاء فيبحثون عن أدوات الميديا المتاحة حاليًا بفعل مواقع التواصل الاجتماعي ليفرضون خطابهم وكأنه خطاب الكنيسة ككل، ولكي تتحرك هذه الكنيسة من سباتها العميق وتنفض التراب عليها أن تقدم خطاب المحبة تجاه الكل والذي يقدمه دائمًا البابا تواضروس تجاه الجميع في كل المناسبات، بما فيهم الأسقف الذي يقدم خطاب الكراهية والتحريض وعندما وقع في شر أعماله سامحه ولم يستخدم سلطان الكنيسة لعقابه والنتيجة أنه لم يقدر المحبة ولازال يتمادى في تصرفاته الهوجاء وتصريحاته الممتلئة بالكرهية.
إن لم تقدم الكنيسة محبة الله لأولادها وأن تعيد بناء خطابها اللاهوتي ليعتمد على المحبة وليكون خطاب محبة، فإن كثيرًا من المشاكل ستظل قائمة، لغياب المحبة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.