الجزء الثالث
وحدة الكتاب المقدّس بوصفها معيارًا لتفسيره
ما أهمّيّة هذه الرؤية لفهم رواية الخلق؟
لم تكن هذه الرؤية مجرد قصص خيالية. بل كانت تعبر عن الحقائق المقلقة التي عاشها البشر في العالم وفيما بينهم. فكثيرًا ما يبدو الأمر كما لو كان العالم عرين تنين ودم الإنسان دَم تنين. ولكن على عكس كل التجارِب القمعية تقول الرواية الكتابية إن الأمر لم يكن كذلك.
كل قصة هذه القوى الشريرة تتلاشى في بضع كلمات: ”كَانَتِ الأَرْضُ خربة خاوية“. وراء هذه الكلمات العبرانية يكمن التنين والقوى الشيطانية التي يُتحدّث عنها في مكان آخر. الآن الفراغ هو الذي يبقى وحده ويقف وحده بصفته القوة الوحيدة ضد الله. وفي مواجهة أي خوف من هذه القوى الشيطانية يقال لنا إنّ الله وحده، الذي هو العقل الأزلي الذي هو الحب الأزلي، خلق العالم وهو بين يديه.
بهذا فقط يمكننا أن نقدر المواجهة المأساوية التي ينطوي عليها هذا النص الكتابي الذي يرفض كل هذه الأساطير المشوشة ويعطي العالم أصله في عقل الله وفي كلمته. يمكن أن يظهر هذا الأمر في النص الحالي كلمة بكلمة تقريبًا – على سبيل المثال، عندما يُشار إلى الشمس والقمر على أنهما سراجان علقهما الله في السماء لقياس الزمن. لا بد أنه كان يبدو للناس في ذلك العصر تدنيسًا رهيبًا أن يُسمّى الآلهة العظيمة الشمس والقمر سراجين لقياس الزمن.
هنا نرى جرأة واعتدال الإيمان الذي، في مواجهة الأساطير الوثنية، جعل نور الحقيقة يظهر من خلال إظهار أن العالم لم يكن مسابقة شيطانية بل نشأ بفعل الله واستند إلى كلمة الله.
من هنا يمكن النظر إلى رواية الخلق هذه على أنها ”تنوير“ حاسم للتاريخ، وخروج من المخاوف التي كانت تقمع البشرية. لقد وضعت العالم في سياق العقل واعترفت بمعقولية العالم وحريته. لكن يمكن أن يُنظر إليها أيضًا على أنها الاستنارة الحقيقية من حيث أنها وضعت العقل البشري على أساس أولي من العقل الذي خلقه الله، من أجل تأسيسه في الحقيقة والمحبة، الذي من دونهما سيكون ”التنوير“ باهظًا وحمقًا في نهاية الأمر.
يجب أن يضاف إلى هذا شيء آخر. لقد قلتُ للتو كيف أن شعب بني إسرائيل اختبر تدريجيًا في مواجهة بيئته الوثنية وقلبه الخاص ما هو ”الخلق“. إن الحقيقة الضمنية هنا هي أن رواية الخلق الكلاسيكية ليست نص الخلق الوحيد في الكتاب المقدس. فبعده مباشرةً يأتي نص آخر مؤلَّف في وقت سابق ويحتوي على صور أخرى. وفي المزامير هناك نصوص أخرى، في المزامير تتقدم حركة توضيح الإيمان فيمَا يتعلق بالخلق: في مواجهته للحضارة الهلنستية، يعيد الأدب الحكمي صياغة الموضوع من جديد من دون التمسك بالصور القديمة مثل الأيام السبعة.
وهكذا، نستطيع أن نرى كيف أن الكتاب المقدس نفسه يعيد باستمرار تكييف صوره مع طريقة تفكير تتطوّر باستمرار، كيف أنه يتغيّر مرارًا وتكرارًا لكي يشهد، على الشيء الوحيد الذي وصل إليه، في الحقيقة، من كلمة الله، وهو رسالة فعله الخالق. في الكتاب المقدس نفسه الصور حرة، وهي تصحح نفسها باستمرار. وبهذه الطريقة تُظهر، عن طريق عملية تدريجية وتفاعلية، أنها ليست سوى صور تكشف عن شيء أعمق وأعظم.
الكاردينال جوزيف راتسنجر (البابا بندكتوس السادس عشر)
ترجمتي عن الإنجليزيّة:
Joseph Cardinal Ratzinger, Boniface Ramsey – In the Beginning…'_ A Catholic Understanding of the Story of Creation and the Fall-Wm. B. Eerdmans.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب نقدي: اللاهوت السياسي، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: لاهوت التحرير، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب البابا فرانسيس: أسرار الكنيسة ومواهب الروح القدس