راسلتني صديقة من المتابعين لإنتاج مدرسة تيرانس للتعليم والوعظ، بآخر محاضرة للأب الفاضل يوسف تادرس الحومي (عضو لجنة التاريخ بالمدرسة)، والتي كانت بعنوان:ما بين البابا ثاؤفيلس السكندري والقديس يوحنا فم الذهب.وكان للصديقة تحفظ على تعبير واحد، وطلبت تعقيبًا. وفضلت أن يكون التعليق عامًا لأن هذا ليس نقاشًا شخصيًا، وقد يهم غيرنا.
كبداية، أسجل سعادتي بأن أرى مدرسة تيرانس قررت الاشتباك مع أطروحات الشباب على فيسبوك، وبشكل محترم أقرب إلى المناقشات الأكاديمية، ومختلف عن طريقة “الرد على الشبهات” التي تتقنها بعض الصفحات الأصولية سيئة السمعة، وأتمنى أن يستمر هذا، وأتمنى ألا تؤخذ انتقاداتي بشكل محبط لهم، بل بالعكس، فلو لم أكن مهتمًا لما اشتبكت أنا أيضًا.
من ناحية أخرى، وبعبارة صريحة قد تكون قاسية، لست أتوقع لهذا المسار النجاح في تيرانس، ليس بسبب ضعف إمكاناتهم وإنما لأن تيرانس من منشأها “كهنوتية”، ومصممة للتعليم والوعظ، أي الحوار الداخلي وليس الاشتباك الأكاديمي. من الصعب جدًا أن نجد كاهنًا حرًا في تقييم تاريخي لبطاركة الإسكندرية كموضوع المحاضرة مثلًا، أو الأساقفة عمومًا، أي رؤساء الكهنة، أي رؤسائه! وربما كان هذا واضحًا أكثر في تعقيب الأب الفاضل أثناسيوس فهمي جورج (مقدم المحاضرة، ومدير مدرسة تيرانس) بأن الكنيسة لا تعطي عصمة لأحد. هذا صحيح، لكنها واقعيًا تنحاز لبطاركتها عاطفيًا وتبرئهم من الجرائم التاريخية. إذن الكنيسة تعصم رغم أنها تقول لا تعصم!
قدّم الأب الفاضل، بصراحة شديدة، تعقيبًا سيئًا للغاية برفضه نقد الرئاسة الدينية، بل وتوجيهه الدارسين بالصلاة من أجلهم! هذا كلام كهنوتي محترم بالطبع، أي أنه غير علماني، ومن ثمّ ما عاد يصلح في العصر الذي يُختار فيه رئيس الجمهورية بالانتخاب، وحزمة قوانين تجيز وتثمن حق النقد على “المسؤولين”، فكيف يُستثنى الرئيس الديني من هذا الحق النقدي؟
كما استشهد الأب أثناسيوس بأقوال -رائعة حقًا- تنص على ترك تقييم الرؤساء الدينيين للتاريخ. حسنًا، لقد أصبحوا بالفعل تاريخًا، فلا أفهم متى وكيف ينوي لفيف الكهنة تقييم جرائمهم!؟ وإذا لم نكن سنُطلق على الجرائم اسمها الحقيقي، فكيف يمكن الادعاء بعدم عصمة أحد؟
بعد توضيح الأدلجة العقائدية (الكهنوتية) وقيادة عقل المتلقي -بالسلطة الدينية- إلى الخضوع السلبي والمُبتعد عن الأكاديمية في تناول التاريخ والشخصيات التاريخية المفصلية فيه، لنحاول سويًا النظر إلى نفس المحاضرة بالشكل البديل، أو العلمي، أو الأكثر أكاديمية، الذي يتعامل معه العالم المتحضر:
الخلط بين السكندري والقبطي
“فلان السكندري” تعني أن فلان منسوب لمدرسة الإسكندرية، وليس مدينة الإسكندرية. وفي الأدبيات التاريخية تعني أنه “مواطن من الدرجة الوسطى”، لأن مصر في عصر الإمبراطورية كانت فيها ثلاث درجات من المواطنة:
أ) مواطن من الدرجة الدنيا: وتعني الذين يعملون في الزراعة، وهم المواطنون الأقباط.
ب) مواطن من الدرجة الوسطى: وتعني المثقفون والمهنيون بالحِرف ذات الصلة بالكتابة والإنتاج الفكري، وهم المواطنون السكندريون.
جـ) مواطن من الدرجة العليا: وتعني المصرح لهم بحمل السيف، وهم المواطنون الرومان.
عندما نسمع عن القديس “فلان الروماني” على سبيل المثال، فهذا لا يعني أنه وُلد في روما، بل قد يكون لم يرها طوال حياته! ولكن هذا يعني شيئين:
الأول: أنه عاش بعد القرون الأربعة الأولى، لأن قبلها كانت المسيحية تمنع حمل السلاح ولو دفاعًا عن النفس [1]، وتمنع التجنيد الإلزامي [2]، والانضمام للجيش [3].
الثاني: أنه مُصرح له بحمل سيف (حتى ولو على سبيل السلاح الشخصي، وليس بالضرورة أن يكون جنديًا أو شرطيًا). فالمصرح لهم بحمل السيف هم الطبقة العليا التي تخضع لقانون روما مباشرة. ولا يمكن الترقي من مواطن درجة دنيا إلى درجة عليا، بل يجب أن يكون في درجة وسطى لعدد معين من السنوات.
ينطبق هذا على كامل الإمبراطورية الرومانية. على سبيل المثال، في الكتاب المقدس، يصف الرسول بولس (القرن الأول) نفسه بأنه طرسوسي [4] للإشارة إلى خلفيته الثقافية كفريسي، أي مثقف من الطبقة الوسطى وليس من العامة، ومرة أخرى يصف نفسه بأنه روماني مولود في الرومانية [5] للدلالة على مواطنته المميزة وحقه في التقاضي وحمل السلاح.
والإسكندرية ليست حالة خاصة في هذه المسألة، فقد كان الرومان في كل ولاية يعملون على تأسيس مدينة شبيهة بالإسكندرية تكون ذات طابع كوزموبوليتاني (دولي) تضم جميع المستويات التعليمية المرتفعة، وكذلك تضم “التجار” [6] من جميع الأعراق والدول.
فالإسكندرية هنا ليست مجرد عاصمة لمصر، وإنما المدينة الكوزموبوليتانية التي تضم المثقفين من مصر، فإذا كنت مصريًا قبطيًا من المزارعين وترغب في ترك الزراعة والتوجه إلى الفلسفة على سبيل المثال، فعليك أن تسافر إلى الإسكندرية تحديدًا وتدرس هناك، وشهادتك أو الليسانس الخاص بك لمزاولة الفلسفة هو أن تنال لقب “السكندري”، على الرغم من أنك لم تولد في الإسكندرية، وقد تتركها وتهاجر إلى أي مكان آخر وتظل “سكندريًا”، طبقة وسطى، أو حاملًا لشهادة دراسية.
لماذا التوسع التاريخي؟
لأن الأب يوسف الحومي قد قال إن أول ٣٧ بطريركًا كانوا سكندريين، ثم بعدها خرجت البطريركية لبطاركة من الدلتا. في الحقيقة، يُطلق على جميع بطاركة مصر اسم “سكندريين” بغض النظر عن موطنهم أو مكان إقامتهم. كما يُطلق على جميع معلّمي الكنيسة المصرية اسم “سكندريين” أيضًا، ولا يعني ذلك أنهم من الإسكندرية، ولا علاقة للأصل الجغرافي بذلك، لأن هناك قواعد دينية تحظر الانتساب الإقليمي والقومي، ولا يزال صدى هذه القواعد موجودًا في الرهبنة، حيث يُنسب الراهب إلى ديره لا إلى وطنه، إذ لا يوجد له وطن أرضي.
هذه المسميات ليست شكلانية، وإن شئت اعتبارها “طبقية فكرية” أو نخبوية، فليكن. لكن هذا هو التأصيل التاريخي المنضبط في عصر الإمبراطورية الرومانية. وعلى فكرة، كلمة “قبطي” في ذلك العصر سيئة وتحمل مدلولًا مشابهًا لاستخدامنا المعاصر “فلان فلاح”، لأن فلاح هنا لا تعني مهنة الزراعة وإنما الثقافة الريفية “فِلح”! ستجد أهل الإسكندرية عندما يريدون شتم أحدهم يقولون له “يا فلاح” حتى وقتنا هذا.
باختصار: “فلان السكندري” تعني أن فلانًا يحمل شهادة من الدولة تثبت أنه ليس من العوام، وإنما حصل على درجة علمية وتأهيل ثقافي رفيع.
إذن فلا علاقة لها بالجغرافيا ولا بالروحانيات، إنما بالتأصيل العلمي. فالدين يُعلّم، الدين يُدرس ويُدرّس يا سادتي الكهنة، وليست “علاقة روحانية” هي المؤهلات لكي يصير الأسقف أسقفًا أو البطريرك بطريركًا.
في الأصل، جاءت فكرة أن يُختار بطاركة الإسكندرية من الرهبان كتطور بعد أن كان يتم اختيارهم من مديري مدرسة الإسكندرية (الفلاسفة العظام دوليًا ومسكونيًا). ولم نكن لنتوقع أن يعترف القديس أثناسيوس الرسولي بالرهبنة أو أن يلبس إسكيم الرهبان، إلا كمحاولة محترمة ومُثمنة منه لمعالجة الانحطاط الذي فعله ديمتريوس الكرام [البطريرك غير السكندري الوحيد لأنه فلاح [كرام] وجاهل لا يعرف القراءة والكتابة] في صراعه ضد الأكاديميا والمثقفين متمثلًا في إغلاق مدرسة الإسكندرية وتحويلها إلى إكليريكية خاصة بالكهنة.
هذه الأشياء الصغيرة ستحدد كثيرًا من تقييماتنا التاريخية عندما نلاحظ أن ثاؤفيلس هو أوّل من وصف كنيسة الإسكندرية بكنيسة الأقباط في خضم صراعه مع ذهبي الفم.
في خضم صراع الكراسي، راسل ثاؤفيلس ذهبي الفم رافضًا تقدم كرسي القسطنطينية على كرسي الإسكندرية في الكرامة، لا لشيئ سوى كونه قبطي
بين أقباط [7]، وإنّه: وإن كان يجب أن أُحاكم، تكون محاكمتي أمام المصريين، ولا أن أحاكم أمامك، أنت [يقصد ذهبيّ الفم] الذي يفصلنا عنك طريق يستغرق خمسة وسبعين يومًا!
[8].
بالمقابل، يعظ ذهبي الفم متسلقًا على جدار الدين لتوجيه ضربات قوميّة لخصمه القبطي بشكل انتهازي وعنصري ضد الأقباط والمصريين، على سبيل المثال نجده في تفسيره للرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي، وعندما يتحدث عن يوسف كعبد في بيت فوطيفار المصري، يقول: كان يقدم حساباته لمصري. وأنتم تعرفون أن هذا الجنس [يقصد المصريين] مندفع، يثأر لنفسه. إذا ما نال سلطة لا يمكن وقف غضبه.
[9]
إذن فكلا البطريركين، السكندري والقسطنطيني، ليسا مسالمين وديعين يقرآن الإجبية ويصليان السواعي! بل كانا شخصيتين سليطتي اللسان محترفتي الشغب والتلاعب اللفظي بالكتاب المقدس. ولا يُعقل أن يُؤخذ كلامهما الديني على أنه عقيدة، بل رأي، ورأي يشوبه التطرف والنعرة القومية، وساقط في أخطاء عنصرية وتعميمات مسيئة لا يمكن تمريرها.
خطورة التفسير الروحي
تلك المشكلة موجودة لدى كثيرين، وربما هي غير هامة لدى أغلب الأقباط، لكنها تتفاقم لمشكلة كبيرة إذا صدرت من شخص قوي ومحترف مثل الأب يوسف الحومي. فالتفسير الروحي لا يعني كلامًا يهدهد روح المتلقي وينعش وجدانه كما يتم استخدامها، بل يعني الإيمان بالوساطة الروحية للمُفسّر عبر آلية الحلول الأقنومي.
جزء كبير من مشكلة “التفسير الروحي” هو افتراض أن المُفسر ليس إنسانًا عاديًا، ليس مثلنا، وإنما هو وسيط روحي، أي مكشوف عنه الحجاب، ويحل عليه الروح القدس أثناء التفسير، ويكون الاثنان متحدين (المُفسر والروح القدس). وعلى إيماننا بإمكانية الاتحاد بالروح القدس، بل وعلى ممارستنا جميعًا لهذا الاتحاد في كل الأسرار، وليس الواضح منها فقط كالمعمودية أو الإفخارستيا، إلا أن هكذا صار معناها أن المفسر لا ينطق من عنده، وإنما الروح القدس هو الذي ينطق على لسانه.
هذا الاعتقاد بالوساطة الروحية هو الأصل في التعبير الكارثي: كلام اﻵباء وحي
وهو اعتقاد خطير للغاية؛ لأنه هكذا لو اختلفت مع المفسر فيما يقول، فحينئذٍ تكون مختلفًا مع الروح القدس فيما يقول. بمعنى: مختلف مع الله ذاته!
تخيل مثلًا إن لم يعجب مصري كلام يوحنا ذهبي الفم عن المصريين كلهم (وهذا حقه بالتأكيد، لأنه كلام عنصري ضده)، فإنه وقتها لم يعجبه كلام الله الناطق في كلمات ذهبي الفم!!
من الذي يفهم هذا الكلام جيدًا؟ الأب أثناسيوس جورج! ولهذا فأنا بصراحة أرى أن تعقيبه (الذي وصفته بأنه سيئ) هو فعليًا مجبر عليه كي لا تتفكك توازنات كهنوتية وعقائدية أخرى لدى المتلقي.
العظيم أوريجينوس
معظم الدارسين لا يمكنهم التعرض لمشكلة ثاؤفيلس وذهبي الفم إلا بالتعرض لمشكلة الأخوة الطوال، الذين تظلموا عند ذهبي الفم من ثاؤفيلس. ولا توجد وسيلة يمكن من خلالها تبرير جرائم ثاؤفيلس التي تضمنت إجراء عمليات تعذيب وحشية ضد الأخوة الطوال، إلا بطرح الأخوة الطوال كمجموعة أوريجانية مارقة. ولتكون “أوريجانية مارقة”، فلا بد من طرح أوريجانوس كمهرطق ومارق هو الآخر.
هذه التبريرات السخيفة يجب أن تتوقف فورًا.
أ) لا توجد حرمانات ضد أوريجانوس،
ولا توجد هرطقة اسمها الأوريجانية
الحرمان الوحيد لأوريجانوس كان نفيُا إداريًا من ديمتريوس الكرام، ومطعون عليه لوجود خلاف شخصي بينهما [10]، ومطعون عليه لكونه صادر من كهنة تم ترقيتهم بالمخالفة إلى أساقفة خصيصًا لحرمانه.
التفاصيل تقول إن ديمتريوس دعا مجلس الكهنة المكون من سبعة أفراد لحرمان أوريجانوس. فرفض مجلس الكهنة بأغلبية أربع أصوات حرمانه، مكتفين باستبعاده عن الإسكندرية، فما كان من ديمتريوس إلا أن قام بسيامة المؤيدين الثلاثة أساقفة، فصنع منهم عام ٢٣٢م أول مجمع أساقفة بالمخالفة للقانون الكنسي [11]، لأن الأسقف المنفرد لا يجوز له رسم أسقف على درجته، ولابد أن يكون هناك أسقفان على الأقل لسيامة أسقف واحد.
استجابةً لما فعله ديمتريوس من مخالفة لقوانين الرسل، أقام بونتياس، أسقف روما، مجمعًا موازيًا وصنع لنفسه أساقفة هو أيضًا، وأيد هذا المجمع قرارات مجمع الإسكندرية، بينما رفض القرار أساقفة فلسطين والعربية وأخائية وفينيقية وكبادوكية.
إن لقبي “بابا” و”بطريرك” كلاهما غير مستلمين، ولقب “بطريرك” أقدم وهو بدعة أنطاكية، بينما لقب “بابا” أحدث وهو بدعة سكندرية. لكن العمر لم يسعف ديمتريوس أن يكون أول بابا لأنه مات بعدها بقليل، فخلفه ياروكلاس، أول من لُقب بابا الإسكندرية، والذي قام منفردًا بسيامة عشرين أسقفًا حين لم تلق مخالفات سلفه معارضات، بل ترحيبًا من روما، وانشغالًا من بقية أساقفة المسكونة برفض قرار الحرم، وتسابقًا في استقبال أوريجانوس لديهم.
كل هذه التحولات المفصلية في هيكلة الكراسي لم تكن لأسباب رعوية، وإنما لأسباب سيئة السمعة، وثمنها القضاء على العظيم أوريجانوس السكندري، الذي لا يزال ملهما للكثيرين حتى من غير المسيحيين ومن آخرهم د. سلوى بكر، صاحبة رائعة البشموري
، التي عادت للكتابة بعد انقطاع طويل برواية أروع: أدامانتيوس
[12].
الألماسي، أوريجانوس ليونايدس أدامانتيوس، الذي قال عنه الأب يوسف الحومي: وأنا كنت أتمنى إنه كان يروح يستشهد، أحسن له، وأحسن لنا، وأحسن للكنيسة كلها
! ومن الواضح الجليّ أن الأب الفاضل، عضو لجنة التاريخ، لا يعرف شيئًا عن أوريجانوس التاريخي، فمصادره عن الثلاثة ثيتا
تشي بالتعمق الشديد في السير الشعبية، والتي تُدرج دائمًا كأحد أنواع الفن الشعبي الذي يجنح للمبالغات لا أحد مصادر التاريخ!
أذكر عن أوريجانوس التاريخي على سبيل المثال لا الحصر أنه في عام ٢٢٨م أرسلت الإمبراطورة ماميا [13] حامية عسكرية تستدعي فيها أوريجانوس إلى أنطاكيا لاستشارته في بعض الأسئلة الفلسفية عن وجود الله. فكانت النتيجة أنها صارت مسيحية، ومن هنا، ستتسلل المسيحية خلسة داخل زوجات الأباطرة حتى تأتي والدة الأمبراطور قسطنطين الكبير وتصارح ابنها بولادتها مسيحية من أبوين مسيحيين وأن أباه الوثني الوحيد في الأسرة، فيصدر مرسوم ميلان الشهير منهيًا عصور الاضطهاد وبدأ عصر الإمبراطورية المسيحية! والعبرة من هذه المقابلة التاريخية أن نرى أثر الفراشة لأوريجانوس السكندري! فلم يكن لكل هذه التبعيات العظيمة أن تحدث بهذه الكيفية لو أستشهد أوريجانوس طفلًا، وأراح قلب أبونا!
عودة إلى سياقنا،
ليس من المنطقي أن نرى فسادًا إداريًا كنسيًا مكتوبًا وموثقًا وواضحًا بهذا الشكل للانقضاض على المعلم الأخير، ونقول بعده أن هذا قرار صحيح، وأنه سلطان الحل والربط والأسطوانة (الدينية) تلك كلها. بل هناك قرار حرمان فاسد إداريًا، وموافقتنا عليه أو على مشروعيته هي موافقة على الفساد الإداري في الكنيسة، والذي سيكون ضحاياه كثيرين في المستقبل، ولن أذكر أسماء من المعاصرين الذين كانوا ضحايا حرمانات كنسية فاقدة لضمانات العدالة بحسب أحكام القضاء الإداري.
إن استقراءنا للتاريخ ليس مسألة أوريجانوس (ليس مسألة شخصية) وإنما تتعلق بتقييماتنا لمدى مزاجية الجالس على كرسي مار مرقس في توقيع الحرمانات على من يكرههم وفقًا لأهواءه، ودون نظام يردعه. وإلا فكيف نقول بأننا لا نعطي عصمة لأحد؟
ثم لدينا البابا رقم ٢٠، أثناسيوس الرسولي [الذي يُفترض أنه البابا الذي ربّى ثاؤفيلس]، صاحب أهم كتاب لاهوتي في الكريستولوچيا تجسد الكلمة
. كان شابًا صغيرًا وقت أن تم الاستعانة به لحضور المجمع المقدس بغرض التصدي لآريوس، فكان يستشهد في تصديه ببراهين أوريجانوس الشهيرة، وتكلم عن أوريجانوس بتبجيل رفيع على أنه أستاذه [14]. فهل من المنطقي أن المجمع سيسمح لشاب صغير يستشهد بمهرطق ويلقّبه بمُعلّمه؟ هذا الحدث وحده يعني أن المعاصرين لم يكن لديهم على أوريجانوس علة لاهوتية واحدة [15].
فأثناسيوس المدافع عن عقيدة المساواة في الجوهر يستشهد بإستمرار بهذا المؤلّف [يقصد أوريجانوس] وعلى إيمانه في حديثه “ضد الآريوسيين”، وينسج كلامه بكلامه الخاص ويقول:إن أورجينوس المبجّل والمجتهد يؤكد بشهادته على عقيدتنا بشأن ابن الله، مؤكدًا أنّه أزلي مع الآب.
لذلك، أولئك الذين نعتوه بخزي إنما يغفلون عن عمد حقيقة أنّ سبابهم ينصب في نفس الوقت على أثناسيوس الذي قرّظ أورجينوس.(سقراط القسطنطيني، التاريخ الكنسي، مجلد ٦، فصل ١٣، فقرة ٥)
أثناسيوس الرسولي الذي صار بطريرك الإسكندرية، ولفّق له أخصامه الاتهامات حتى نُفي من كرسيه خمس مرات. لماذا خلت قائمة التلفيق من الاتهام بالأوريجانية؟ أو أنّه من تلاميذ أوريجانوس المهرطق المحروم؟
وهنا أعود لنقطة ذكرها الأب يوسف الحومي: أنّ أوريجانوس قد حُرِمت أفكاره في أحد المجامع السبعة التي يعتمدها “الروم الأرثوذكس”:
بداهةً، هذا ليس بحرم، وإنما تقنين لاهوتي مستحدث بعد الاستقرار على الشكل الأرثوذكسي، الذي لم يكن مُستقرًا عليه أيام أوريجانوس. والحرم هنا للردع المستقبلي ولا ينسحب على السابقين. ثم أننا لا نعتمد سوى مجامع ثلاثة وهذا ليس منها. فهل قررتم التحول للبيزنطية خصيصًا من أجل التصيد لأوريجانوس؟ أم لعلك ترى أن كنيسة الإسكندرية جانبها الصواب في عدم الاعتراف بمجامع لم تشترك فيها في المطلق؟ أو ربما تطلب منا أن نمتثل من سكات على أشياء لم نناقشها لطالما ناقشها البيزنطيون قبلنا؟ ببساطة، هذه الانتقائية والتصيد ضد أوريجانوس لحماية فساد ديميتريوس أو ثاؤفيلس، ستوقع صاحبها والكنيسة في مشاكل أكبر.
لما كانت افتراءات المفترين قد فُرضت على الكثيرين من الأشخاص، ونجحت في إبعادهم عن قراءة أعمال أورجينوس كما لو كان كاتبًا مجدفًا، فإنني أحسب من غير المناسب ألا أذكر بضعة ملاحظات بشأنه.
إن الشخصيات التي بل وزن أو قيمة، وتفتقر لهذا إلى القدرة في الوصول إلى التميّز، تسعى غالبًا إلى الحط من أولئك الذين يتفوقون عليهم.
فأولا كان ميثودويوس الأولمبي يعاني من هذا الداء، ثم يوستاثيوس […] ومن بعده أبوليناريوس، وأخيرا ثيوفيلس. هؤلاء المنافسون الأربعة قد هتكوا سيرة أورجينوس […] ولكنني أؤكد أنه قد نجم عن انتقاد هؤلاء الرجال مديحًا متزايدًا لأورجينوس.
لأن أولئك الذين سعوا إلى الحط من قدره، ولم يستطيعوا مع ذلك أبدًا أن يقدموا اتهامًا ثابتًا برأي غير سليم بشأن الثالوث القدوس، إنما هم في الواقع قد قدموا شهادة قوية على وجه الحصر بأرثوذكسيته. لقد مدحوه بشهادتهم الخاصة.(سقراط القسطنطيني، التاريخ الكنسي، مجلد ٦، فصل ١٣، الفقرات ١-٤)
ب) الأخوة الطوال هم جماعة أوريجانية
هذا صحيح، ولكن هذا لا يعني أنهم مهرطقون، بل يعني أنهم يؤمنون بالتفسير الأفلاطوني (الرمزي) للكتاب المقدس، والبديل لذلك هو التفسير الأرسطوطالي (المادي) للكتاب المقدس.
وفي الحقيقة، فإن جميع المسيحيين الحاليين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم هم أوريجانيون، أي يعتمدون التفسير الرمزي للكتاب المقدس. أما البديل الأصولي المكافئ، فقد حسمه البابا كيرلس عمود الدين بأنه هرطقة أنثروبومورفية [16] (من أنثروبولوچيا، أي تجسيد الله وإسناد وجه وفم وعينين وشفتين له – على غرار زندقة الشبوهية والمجسّمة في الإسلام).
وبالتالي لا يوجد مبرر لثاؤفيلس للاعتداء على رهبنة الإخوة الطوال، المؤمنين بالمدرسة الرمزية في التفسير والبعد عن التفسير المادي؛ سوى كونه هو نفسه مادي ومهرطق أنثروبومورفي.
لم تكن مشكلة الأخوة الطوال [17] هي المشكلة الوحيدة التي تم تدويلها إلى القسطنطينية، فهناك مشكلة القس إيسيذورس [18]، والقمص بطرس [19]. وقد أنصف التاريخ هؤلاء جميعًا وأشاد بصدق روايتهم. وبناء على ذلك، ينتفي وجود أي مبرر لمعاداتهم (لو افترضنا أنّ التعذيب والعنف الدموي وسيلة مشروعة للعداء).
القصة التاريخية تتجلى في تلاعبه اللفظي مع رهبان وادي النطرون (الأنثروبومورفيت) عندما رفضوا رسالته الفصحية، فزحفوا إلى الإسكندرية وحاصروا ثاؤفيلس مهددين بقتله لأنه كافر. فنزل وتملقهم بالتعبير: إذ أراكم، أرى وجه الله
[20] فاعتبروه مثلهم مؤمنًا بأن لله هيئة بشرية وله وجه ونصبوه زعيمًا أنثروبومورفيًا، الأمر الذي ساعده بعد ذلك على استخدامهم في تنظيم مليشيات البارابولاني [21] والقيام بحملات القتل والتطهير والتعذيب التي وُصف بأنه يشترك في هذا العمل الوحشي
بنفسه [22] بحسب تعبير أسد رستم [23] لطالما الأب يوسف ذو هوى بيزنطي.
ونعود هنا إلى لفت النظر مجددًا لتعقيب الأب الكاهن أثناسيوس جورج؛ إننا لا نؤمن بعصمة أحد. عظيم، نحن لا نؤمن بعصمة أحد، لكن لدينا ثاؤفيلس السكندري، مهرطق أنثروبومورفي، ويذكر مع الآباء الذين تسلمنا منهم الإيمان في المجمع كما قال الأب يوسف الحومي!
السؤال هنا: ما معنى الإيمان بعدم عصمة ثاؤفيلس -المهرطق- مثلًا؟ إن كنا لا نستطيع رفعه، على الأقل من سلسلة تكريم الآباء الذين تسلمنا الإيمان عنهم؟ ثم ما هو الإيمان الذي تسلمناه عن ثاؤفيلس بالأساس؟ ليس له إنتاج لاهوتي! أي أننا لم نتعلم منه شيئًا! ماذا تعني ميامر ثاؤفيلس؟ وما وجه لزومها؟ ما هو الحدث الجلل الذي سيخل بموازين المسيحية إن تم حذفه بميامره من سجل تكريم الآباء السابقين نتيجة لما قام به من أحداث عنف وهرطقة وقيادة رهبان لقتل رهبان؟ هل نحن نضع أسماء “أي كلام وخلاص” لمجرد ظبط العنعنة أن تنهي بمار مرقس؟
الأمر مختلف مثلا مع خليفته، البابا كيرلس عمود الدين، والذي وإن كان من رهبان وادي النطرون [دير أبو مقار] وشاهد وشارك هو أيضًا في عمليات تطهير ديني، أقربها ضد يهود الإسكندرية، ويده ملوثة بالدم الذي سال في خلال استلاب معابد الديانات المصرية القديمة لتحويلها إلى كنائس مسيحية [24]، لكنه على الأقل كتب ضد الذين يتصورون أن لله هيئة بشرية
ضد الهرطقة الأنثروبومورفية. أي أنه كتب ضد خاله!
كيرلس عمود الدين هو حقيقة من نستطيع أن نقول بتسلمنا عنه الإيمان، ولا يخلو أي نقاش كريستولوچي من ذكر اسمه واستخدام براهينه في المحاججة. هذا يعني أن له إنتاجًا لاهوتيًا فعليًا موجودًا بين أيدينا، وليس مجرد “أي كلام”. ومن هذا الإنتاج ما هو ضد ثاؤفيلس! ونحن نضع الاسمين في سلسلة المجمع؟! الأنثروبومورفي المهرطق والأرثوذكسي الذي رفض الأنثروبومورفية؟؟ هل هذا معقول؟ سلامة الخاطف والمخطوف أيضًا؟
عمومًا،
نعود فنؤكد على أنه من الجيد والمهم فتح باب الحوار في المراجعات التاريخية، وبالأخص في الموقف ضد العنف. ليس لدينا سوى حادثتين أو ثلاث في تاريخ طويل من السلمية دفعنا فيه الثمن بالموت دون رفع السلاح لأربعة قرون.
لكن للأسف، لست مقتنعًا بأن الكنيسة (وبالأخص الكهنة) يمكن أن يقودوا مثل تلك المراجعات. وما زلت أنصح الشباب بممارسة المزيد من الضغوط، لأن التاريخ يعلمنا أنه لا مراجعات فكرية تتم في أي مكان إلا تحت الضغط.
فعذرًا لموقفي، آملًا تفهّمكم ورحابة صدركم.
وبالنهاية، يعلم الله أن النوايا هدفها الإصلاح لا الهدم، وأنني سعيد جدًا بهذه المحاضرة [25].
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟