التسليم أو التقليد هو ما تواتر عن الكنيسة الأولى ومن مفردات حياتها في المسيح ومعه، بمعنى ترجمة إيمانهم على يومهم، وهو ما يسمى في عصرنا التلمذة، التي من خلالها تنتقل خبرات الأجيال. تتابعا، وتراكم عليها، والذي يحميها من الشطط هو المعيار الكتابي الذي وثق لنا أساسيات ومحاور تعليم رب المجد، والقدر اليسير من ترتيب الكنيسة الأولى في عصر الرسل والموثق في سفر أعمال الرسل سجل يوميات الكنيسة والممتد حتى اليوم وحتى مجيء الرب ثانية.
والكتب المقدسة -خاصة في العهد الجديد- كيف وصلت إلينا ولماذا هي بالذات التي اعتمدها المؤمنون؟ ولما رُفضت كتابات كثيرة رغم التصاقها بأسماء تعد أعمدة بالكنيسة الأولى؛ إنجيل مريم، إنجيل توما، إنجيل بطرس،، وغيرها الكثير؟ ببساطة شديدة وفي غير إخلال بعلوم الكتاب المقدس، كان معيار قانونيتها، قياسها على ما وقر في ذهن وعقل شهود الكنيسة الأولى التي أسماها لوقا البشير الأمور المتيقنة عندنا
[1]، وكانت افتتاحية إنجيله توجز قضية التسليم (التقليد) هنا: [2]
إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة، رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به.(إنجيل لوقا ١: ١-٤)
التسليم لفظًا هو ما يسلمه طرف إلى طرف آخر، وهو في دائرة الكنيسة تسليم خبرة إيمان جيل سابق إلى جيل لاحق، وهو ليس تسليمًا عشوائيًا بل يقاس على ما استقر في الكنيسة الأولى -كنيسة الرسل- ومعياره في حده الأدنى ما وثقته الأناجيل ورسائل الرسل.
صحة التسليم إذن في تأكيده لمحبة الثالوث التي تجلت في التجسد والفداء والمصالحة التي بها رد آدم إلى رتبته الأولى قبل السقوط. وما الطقوس والترتيبات الطقسية للعبادة إلا تجليات لهذا.
فإذا اُغتصِب مجد المسيح وأُعطِى لغيره، فلا يمكن أن يعتمد تسليمًا صحيحًا مهما تواتر بين الأجيال، ولا يكتسب قانونيته بطول زمنه، أو بلغة أهل القانون؛ “بالتقادم”.
قس على ذلك ما حدث في ترتيبات استقبال الرتب الكنسية العليا، وفي مظاهر التعظيم لها، والسلطات المطلقة لهم، والتعسف في حق الحِل والربط، الذي أساسه رد الخاطئ عن طريق ضلاله، وليس اعتماده سيفًا على رقاب من لا يروقون لهم.
وما يصدمك الترويج لكرنفال الملابس الكهنوتية باعتباره تسليمًا أو تقليدًا، وهي مفارقة لروح العبادة وذائقة الاتضاع.
وهذا يدعونا لتصحيح ما وقر في ذهننا، بشأن تكريم القديسين، وهم يستحقون التكريم كعلامات مضيئة تنير لنا الطريق إلى معرفة المسيح، أزمتنا في احتلالهم لمكان رب المجد، حتى كدنا أن ننزلق إلى الصنمية، وعلامة هذا تلك الأنابيب التي تزاحم وجود المسيح في بيته، سجودًا وتضرعًا، وأي محاولة لمراجعة موضوعية تواجه بقائمة اتهامات ممتدة تشكك في أرثوذكسية المطالب بها. والسند هو ما يحسب تسليمًا.
التقليد الكنسي وفض اشتباك الأفيال
في تقديري أن التقليد، حسبما ذكرنا، هو مراكمة لخبرات كنيسة تعيش المسيح، وتعلنه فيها باعتبارها عمود الحق وقاعدته، والمسيح هو الحق، حسب تعريفه لنفسه.
وظني أنّ صحة التقليد تقاس بقدرته على ترجمة الحياة في المسيح إلى فعل وديمومة. أزمتنا بغير تعميم وبغير تخصيص هي في ضبابية معرفتنا للمسيح بعد كل هذا الزمان؛ وربما نكون امتدادًا لفيلبس الذي لم يدرك ماهية الرب يسوع وإعلانه للآب، وأظن أن سؤال، أو قل عتاب المسيح له، موجه إلينا: قال له يسوع: «أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس! الذي رآني فقد رأى الآب، فكيف تقول أنت: أرنا الآب؟
[3].
نحن بحاجة إلى مراجعة مواجهاتنا لبعض في اجتزاء للتاريخ أو أحيانا إنكاره، وبحاجة إلى الانتباه أن شخص المسيح وتجسده وعمله الفدائي لم تعد -عند كثيرين- على قائمة تعاليمهم أو على الأقل في أولوياته، وكثير من عباداتنا الطقسية صارت منزوعة الروح والدسم.
والسؤال لماذا كل هذا الإتلاف؟!
ألا يستحق الأمر مزيد من التحرك نحو حوار جاد جسور لا يخشى خفافيش الظلام ومؤامراتهم؟ ويقاوم حراك أصحاب المصالح -الساذجة- المرتهن بقائها ببقاء الأمر على ما هو عليه؟
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨