Search
Close this search box.

الأخلاق مفهوم يُفهم على نطاق واسع على أنه مجموعة من القيم الإيجابية مثل التهذب والاحتشام والاحترام واللطف والتواضع واحترام كبار السن. ومع ذلك، غالبًا ما نغفل عن جانب آخر من الأخلاق: الجانب الذي نتفق جميعًا ضمنيًا على تجاهله من أجل الحفاظ على النظام الأخلاقي. إنه جزء من الصفقة الأخلاقية التي نلتزم بها معًا، ولكننا نتجنب مناقشته. يُطلب منا قبوله ونسيانه، لأنه بمجرد تسليط الضوء عليه، تصبح الأخلاق أكثر تعقيدًا وصعوبة في التعامل معها.

دعونا في البداية نعرّف الأخلاق، ولكن ليس بتعريف لطيف مثل الذي قرأته في الفقرة الأولى. حسب المعجم الوسيط، الخُلُق: حالّ للنفْس راسخة تصدر عنها الأفعالُ من خيرٍ أو شرٍّ من غير حاجةٍ إلى فكرٍ ورويَّةٍ.، أي إن نتائج الأخلاق ليست بالضرورة أفعال خيِّرة، بل الأخلاق يمكن أن تنتج الشرّ أيضًا.

يعتبر تعريف قاموس المعاني الوسيط قديمًا إلى حد ما. على سبيل المثال، يذكر أن الأخلاق هي حالة نفسية راسخة لدى الفرد تؤدي إلى أفعال معينة. ومع ذلك، يعتبر هذا تعريفًا غير كامل. لذلك، دعونا نستكشف تعريفات القواميس الإنجليزية لمعرفة ما إذا كانت تقدم وصفًا أكثر دقة أم لا.

وفقًا لقاموس ميريام وبستر، فإن الأخلاق هي مجموعة المبادئ التي تحكم تصرفات الفرد والمجتمع، أو النظرية أو النظام الذي يُحدد به الفرد القيم التي يتحرك بها، أو التوافق الذي يُنشئ مجموعة من القواعد التي تحدد ما يُعتبر صوابًا وما يُعتبر خطأ. يُعد هذا التعريف أفضل من تعريف المعجم الوسيط لأنه يبين لنا البعد الاجتماعي لظاهرة الأخلاق. أما قاموس كامبريدج فيُعرّف الأخلاق على أنها المعايير التي يُحكم بناءً عليها على السلوك بالصواب والخطأ.

استنادًا إلى المعطيات السابقة، يمكننا استخلاص تعريف للأخلاق على النحو التالي: الأخلاق هي نظام اجتماعي متفق عليه بمثابة إطار يمكن للأفراد والجماعات من خلاله تقييم السلوك. ونتيجة لهذا الإطار، فإن سلوك الأفراد والجماعات يتأثر لأنه يميل إلى توجيههم نحو التصرف بما يعتبرونه صحيحًا وتجنب ما يعتبرونه خاطئًا. ومن المهم التمييز بين المستويين الفردي والجماعي، حيث أن ما يقتنع به الفرد قد لا يتم ممارسته عندما يكون جزءًا من مجموعة، وما هو مسموح به للجماعة قد لا يكون مسموحًا به للفرد.

في خطابه الصادر في أغسطس 1963، المعروف باسم خطاب من سجن برمنجهام، يقول كينج الابن إن الجماعات تكون أكثر لا أخلاقية من الأفراد، مُرددًا عبارة اللاهوتي الأمريكي رينولد نيبور والباحث في مجال الأخلاق. ويحذر الناس من الانفعال بفكرة العنف في أثناء مطالبتهم بحقوقهم، قائلًا إنه عندما تدافعون عن حقوقكم، يجب أن تدركوا أن وجودكم في جماعات يعرضكم لخطر الانحدار إلى أفعال غير أخلاقية.

التفسير الذي أعتقد أنه صحيح للموضوع هو إننا نفكر في الجُرم باعتباره شيئًا ماديًا يُقسَّم إلى أجزاء أصغر. فعندما يقوم أحدهم بجُرم منفردًا، يتحمله بالكامل منفردًا، ولكن عندما يكون الجُرم جماعيًا، يتصوّر كل فرد أن ذنبه أقل لأن الجُرم مُقسَّم على عدد كبير، بالتالي يكون أكثر تهاونًا في ارتكابه. فالشخص الذي لديه إطار أخلاقي يمنعه عن القتل، من الممكن أن يشارك بضربة واحدة تُفضي إلى موت لو كان وسط الجماعة. والشخص الذي لا يسرق في الظروف الطبيعية، لو كان وسط ألف شخص يسرقون محلًا تجاريًا، يمكنه محاكاة الجماعة وتبرير السرقة لنفسه بأي تبرير يُعلي من دوافع الجماعة التي نفذت السرقة، مثلًا إنهم رأسماليون وأساسًا سارقين حقوق الشعب ونحن نأخذ حق الشعب منهم، وكأن الشعب كله يتمثَّل في الألف الذين اقتحموا المحل التجاري.

إذن، حتى الآن، رأينا أن الأخلاق ليست شيئًا إيجابيًا على نحو مطلق. الأخلاق ليست شيئًا ثابتًا وقد تختلف باختلاف معايير كل جماعة، وقد تختلف أيضًا بين نفس الجماعة وأفرادها. فعلى المستوى الفردي، قد يكون هناك شيء مرفوض، لكن الجماعة تطور موقفًا أيديولوجيًا يبرر ويسمح بما قد يتعفف عنه الأفراد.

ما يهمني بالأكثرية في هذا المقال هو الجانب الاجتماعي للأخلاق أكثر من الجانب الفردي النفسي. الكود الأخلاقي الذي يتوافق عليه الناس ليس مجرد مجموعة أفكار، ولكنه أفكار وأفعال وتراتبية (Hierarchy) يتحدد بناءً عليها مكانة الشخص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فمثلًا الشخص الذي يوصم بشيء لا أخلاقي يتعامل معه المجتمع باعتباره منبوذًا -إلا إذا كان عنده نفوذ يجعل النبذ المجتمعي لا يناله- وعلى هذا، فإن الفرد أمامه شيئًا من اثنين، إما يواجه المجتمع بأن يمشي بالكود الأخلاقي الفردي الخاص به، أو أن يكون عنده أكثر من كود أخلاقي يستخدم واحدًا في السياق الجماعي وواحدًا في السياق الفردي كي يتقي شر الأذى الجمعي.

إذن الأخلاق في حد ذاتها هي أداة قوة، مثلها مثل رأس المال، مثلها مثل النفوذ، ومثلها مثل التأثير بالخطابة… تخيل إنني في هذا المقال أمارس عليك قوة بمحاولتي لإظهار فكرتي باعتبارها أكثر منطقية وترتيبًا كي تقتنع بالفكرة وتنشرها. كل هذه علاقات قوة، حتى لو تم تغليفها في غلاف خيّر أو حتى لو كان الدافع وراءها خيّرًا بالفعل فشئت أم أبيت كل شيء تفعله يخلق تراتبية قوة وله تأثير.

الأخلاق ليست جزيئات حرة موجودة في الهواء، لكنها تلتصق بنظم أخرى تتفاوت في القوة والتأثير. فعلى سبيل المثال، تتغلغل الأخلاق في المعاملات التجارية، وفي الجوانب الاجتماعية الخاصة بالزواج، وبالطبع في الظاهرة الأكثر نفوذًا في وهي الدين. قد تقول مثلًا إن الدين هو الذي يحدد الأخلاق، أقول لك: صحيح، ولكن هذا جزء من الصورة، والصورة الأكبر هي أن الأخلاق أيضًا تحدد الدين!

الآن قد رفعت حاجبك (أو كليهما، وربما بعض الشتائم أيضًا)، فدعني أضرب مثالًا قبل أن تكمل الشتيمة. هل تعلم يا عزيزي الدوق أن العبودية مثلًا لم تُحرم في الأديان الإبراهيمية الثلاثة؟ وهل تعلم يا عزيزي الدوق أن مقاومة العبودية تطورت كامتداد لنظام أخلاقي يتضمن عوامل منها العامل الديني ولكن ليس المحرك الوحيد؟ أراك قد رفعت حاجبك مرة أخرى وقلت: ماذا تقصد يا عم، هذا الكلام متناقض!

امشِ معي خطوة بخطوة.. اليهودية، على سبيل المثال، تحتوي على تشريعات للعبودية، وتحدد متى يُستعبد الفرد ومتى يُعتق ومتى تنتهي عبوديته إذا تعرض لأذى بدني، لكنها لا تتضمن نصًا صريحًا يلغي العبودية ويحرر جميع البشر.

جاءت المسيحية في السياق الروماني، وقدمت مساواة روحية بين السادة والعبيد وجمعتهم على مائدة واحدة، لكنها لم تعلن إلغاء التراتبية الاجتماعية، بل أعلنت أن الجميع متساوون عند معموديتهم بالمسيح.

في الوقت نفسه، استُحضرت النصوص الدينية المسيحية واليهودية (العهدان) باستمرار في المناقشات المتعلقة بتحرير العبيد، لكن المنطلق لم يكن أن النصوص ألغت العبودية، وإنما أننا مطالبون بالتحرك نحو أخلاق أكثر كمالًا.

يعني على سبيل المثال، نفس النص الذي لم يحرم العبودية، تحدث عن مساوئ العبودية وذكر أنها تجرِبة بغيضة ومُرّة. بالتالي، إن كانت تجرِبة بغيضة، فلا يصح فرضها على إخواننا من نفس البلد. ومن هنا، كان هناك اتجاه لتطوير فكرة موجودة في النص الديني، حتى يقتنع بها المؤمنون بالنص الديني، حتى وإن لم يكن هناك نص صريح عليها في النص الديني. كل هذا حدث ضمن ديناميكية أكبر، وهي الدولة. وأصبحت هناك قوة أخرى تسمى قوة المواطنة، وأصبح النص الديني يُفسّر لجعلها أقوى. وبعد ذلك، جعل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان احترام الإنسان قيمة عليا، تمكن العالم من الضغط بها على دول كثيرة كانت تمارس العبودية لإلغاء هذه الممارسة. لكنني لن أذكر أسماء الدول حتى لا تخاف. سأتركك تبحث عنها بنفسك، وليس من الضروري أن أقول لك كل شيء فأتعرض للسب.

هل يعني هذا وجود صراع منظومات وأكواد أخلاقية كثيرة؟ بالضبط، هكذا بدأت الفكرة تصل إليك. الأخلاق ليست شيئًا واحدًا، بل هي اتفاق جماعي، بالتالي إذا توافقت مجموعة أخرى على فعل ما باعتباره فعلًا أخلاقيًا، فستمارسه وتمتنع عن عكسه. مع ملاحظة النقطة التي ذكرتها لك أعلاه، وهي أنه من الخطر أن ترسم علاقات سببية بين هذه المنظومات على اعتبار أن بعضها يؤثر في البعض الآخر بعلاقات من اتجاه واحد، من نوعية الدين يُشكّل الأخلاق، والمجتمع والأخلاق لا يشكّلان الدين. أعتقد أنه لو نظرت إلى تاريخ الأفكار في العالم، فستجد أشياء مفاجئة في هذا الموضوع.

في الجوهر، فإن الأخلاق -سواء وجدتها مريحة أم لا- هي عنصر من عناصر هيكل السلطة. تنشئ المجموعات مدونات سلوك محددة يجب على أعضائها الالتزام بها. ونتيجة لذلك، قد تتأثر علاقتك بالمجموعة إذا رفضت الامتثال لقواعدها. ولذلك، قد تضطر بعض الأحيان للتماهي مع الجماعة من أجل تجنب النبذ أو الرفض.

هنا نأتي إلى مشكلة نعاني منها في مجتمعنا المصري، وهي مشكلة الحريات الشخصية. بعض السياقات التاريخية والاجتماعية والدينية أنتجت نمطًا من الأخلاق يسمح ويحث الإنسان على التدخل في حياة وخصوصيات غيره تحت كليشيات مثل النصيحة والخير المشترك والحب والاهتمام والأخوة والعائلة والالتزام وما إلى ذلك من سلسلة لا حصر لها. في الحقيقة، هنا تتحول الأخلاق من تحديد لما هو صحيح أو خاطئ حسب تعريف الجماعة إلى أداة يستخدمها كل فرد لاقتحام مساحات لا يمكنه اقتحامها من دون رفع راية الأخلاق. الأخلاق شيء رائع لأنها تنظم معاملات الناس، لكنها في الوقت نفسه تُستخدم لمنح طرف سلطة على الآخر.

تخيّل الموضوع كأنه طبخة، فكلما زادت إحدى المقادير تغيرت الطبخة. فلو زادت في الطبخة الحرية، سيقل فيها الكود الذي يجعل الناس متماثلين حد التطابق. ولو زاد فيها التنسيق وتوافق السلوك والخطاب، سيقل فيها التنوع والحرية والإبداع. وهذه الطبخة لن تضبط أبدًا بشكل يعجب الجميع. ولا بد أن تفهم أن هذه الطبخة ليست لك وحدك، وليس لها كتالوج يجعل طبختك صحيحة وطبخة غيرك خاطئة. لكن يمكنك القول إن مجموعة من الأفراد تحب الطبخة بطريقة معينة ومجموعة أخرى تريد الطبخة أيضًا ولكن بمقادير مختلفة. والمهم هنا أنه لا يوجد طرف يقرر أن يأكل الناس جميعًا نفس الطبخة على مزاجه، معتقدًا أنه سيجبرهم على مصلحتهم أو معتقدًا أنه مُوكّل على الجميع لإصلاحهم. الضابط الوحيد الذي يجب إجبار الكل على الالتزام به هو القانون الذي ينظم حقوق المواطنة، أي شيء لا يخالف قانون المواطنة الذي تمثله سيادة الدولة هو قانون قابل للتنوع والتفاوض ويخضع للأذواق والحريات الشخصية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جون إدوارد
[ + مقالات ]