كلمة “وحي” في اللغة العربية هي كلمة مش دينية أساسا، ومعناها الإيماء السريع بفعل الشيء دون تفصيل.. في المعاجم هتلاقيها بمعنى “الإعلام في الخفاء”.. ولو أنا هابسطها هاقول إنها بتعني الإلهام.. أنا مثلا لو أوحيت لك بفكرة، فكدا أنا ألهمتك إياها..
لفظة وحي مش بالضرورة يكون معناها ديني أو حتى معنى حلو.. مش بالضرورة يكون مصدره الله يعني.. وممكن تيجي بمعنى التهامس الشرير (الوسوسة) زي ما جت في الآية القرآنية: “يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا” (اﻷنعام 112)
في الترجمة العربية للكتاب المقدس، فكلمة “وحي” اللي ذكرها بولس الرسول في تيموثاوس معناها الأصلي في اليونانية “أنفاس الله” (من التنفس) يعني وكأنه بيقول إن علاقتنا بالله “حيه”، وإن كلامنا معاه (بالصلاة) وكلامه معانا (بالأنبياء) هي عمليات شهيق وزفير بنتنفس فيها من أنفاس الله ذاته.. وعلشان كدا تم ترجمتها للفظة “وحي” لكن مقصد بولس الرسول مش عن النصوص خالص، ده مقصد فلسفي أبعد وأعمق بكتير..
لو انت متبحر في الآبائيات، هتلاقيهم بيعتبروا الكلام الروحي للآباء “وحي”.. هما هنا برضوا بيقصدوا “أنفاس الله” بالطريقة اللي عبر عنها بولس الرسول، ومش بيقصدوا إن كلامهم صار ضمن الكتاب المقدس أو على مكانته عندك..
في العصر الحالي بشوف معظم الناطقين بالعربية تأثروا بخواص الوحي القرآني زي التنزيل (يعني اللفظ اتصاغ من الله نفسه – مخلوق) فبقي المفهوم بتاع الوحي وكأنه بالضرورة يكون زي الوحي القرآني.. وده مش صحيح حتى في الإسلام نفسه لأن طرق الوحي متعددة، زي الرؤيا مثلا، ودي عملية فيجوال (بصرية) مش نصية من أساسه.. وبالتالي عملية تسجيلها وكتابتها على شكل نصي بتستلزم صياغة الرائي لما رآه.. الله بينير الرائي ويخليه يشوف، لكن الرائي نفسه هو اللي بيصيغ ويكتب ويشرح اللي شافه، وطبعا ده مرهون بامكانيات الرائي مش بامكانيات الله.. والرائي ده بيكون نبي حضرتك مش حد صحفي ديسك في الجرنال يعني.. فمش فاهم أنا موضوع “إن مكنش الله كاتب بنفسه إذن هناك طعن في المصداقية” ده جه منين غير كمزايدات علي المسلمين! ماهو لو هتحط الأنبياء ضمن احتمالية النصب عليك، فهما أصلا اللي بيقولولك ده من ربنا.. لو مش واثق في مصداقية الرسول هتضمن الرسالة إزاي أساسا؟
الكتاب المقدس الحالي بعهديه يحوي أنماط متعددة من الوحي، لكن الوحي التنزيلي ده أنا لا أراه غير في “الوصايا العشر” مثلا.. بخلاف دي فلا يوجد إدعاء من اليهود أو المسيحيين بأنبيائهم برسلهم إن الله كتب بنفسه ثم سلم المكتوب للبشر.. كل الباقي بالتأكيد هو صياغة النبي القائم بالكتابة، أو حتى صياغة كاتب بينقل كلام النبي لأن ممكن يكون النبي ميعرفش يكتب، أو بيكتب وضعيف في اللغة فييجي حد يصححله مفرداته ومسوداته، أو حتى شكل الكتابة نفسه يختلف زي ما أنا بكتب بالعامية، فييجي بعدي حد ويعيد صياغة المقال بالفصحى بحيث يفهمها أكتر كل الناطقين بالعربية مش اللي بيفهموا العامية المصرية بس.. أو ييجي حد ويترجم للغة مختلفة خالص لكسب مساحات أكبر من القارئين مكانوش بيتكلموا اللغة اﻷصلية.. العملية ديناميكية ومش جامدة ودائمة الحركة من عصر لعصر فتظهر اشكاليات جديدة أو تتحل اشكاليات قديمة، وكل ده طبعا غير خيارات المترجمين بين المفردات المتعددة عند الترجمة، ماهو كل ده أدوار بشرية متداخلة مع المقصد الإلهي..
أنا قريت كتب لاهوتية وفقهية كتير بتتكلم عن مسألة “عصمة الكتاب” (بالنبي بالرسول بالكاتب بالمترجم).. وكلها طبعا أوڤر جدا لأن واقعيا إنت معندكش نبي واحد ولا رسول واحد.. ده أنبياء كتار جدا في أزمنة متعددة جدا والمحتوى الكتابي نفسه ﻻ يتحدث عن النبي كـ”سوبر مان” له قدرات خارقة عن البشر، بل كبشر مختارين، وأخطائهم وخطاياهم مذكورة جوه نفس الكتاب المقدس، وأحيانا بيكون ده مقصود علشان الناس تتعلم من خطية فلان النبي وتعرف إنك ممكن تغلط وتقوم تاني، فيتولد اﻷمل والرجاء..
قصة يونان النبي مثلا، إيه معناها لو معصاش الله وهرب من تسليم كلامه (هرب من الوحي علي فكرة) لشعب نينوى؟ القصة لو حذفنا منها “خطيئة يونان” كانت وقتها هاتبقى الله قاله حاجة بمعنى الدعوة للتوبة، وهو راح قالها للناس، فالناس وقتها هتلاقي كلامه عادي جدا ومش هتسمعه وتهزأ به فعلا زي ما هو توقّع.. إنما لما عصى الله ورفض تسليم الوحي، جاءت قصة الحوت اللي في حد ذاتها كانت معجزة خلت الناس تصدقه وتتوب.. فحتى خطايا الأنبياء ليها توظيف يخدم الرسالة.. والتوظيف ده واضح.. والعصمة مهما فلسفوها وقالوا لااااااا أصل دي مش عصمة للحياة الشخصية وإنما عصمة في مجال الرسالة.. فانت ايش عرفك الرسالة المقصودة غير من الخبرة الشخصية للنبي؟ وايه فايدة الخبرة الشخصية بتاعت النبي – لينا إحنا – إلا لو النبي يملك خيارات بشرية عادية بما فيها خيار العصيان والخطيئة! ما جايز دي عبرة الرسالة أصلا ياللي عامل أنصح من ربك!
في الحقيقة لا يوجد سبب للثقة في النص المقدس سوى الثقة في الأنبياء والرسل والآباء والأجداد الذين وثقوا فيهم قبلنا من جيل لجيل، وتعهدوا النص بالحفظ والرعاية (التسليم الرسولي / التقليد / حط مسماك المفضل لنفس الناس) والعملية بقيت أسهل بعد اختراع المطابع، وأسهل وأسهل بعد الكمبيوتر والسوفتويرز والانترنت.. لكن لو رجعت للقرن التاني ولا التالت كنت هتعرف قيمة أوريجانوس وهو بيضيع عمره في كتابة الهيكسابيلا والأنابيلا (كتاب أرشيفي يحوي أعمدة تقارن ترجمات الكتاب المقدس بستة لغات في الهيكسابيلا، وتسعة في الأنابيلا التي لم ينهها)
أخطر حاجة بشوفها إني ألاقي ناس (وقساوسة بروتستانت وأساقفة أرثوذكس ونينچا يعني) بيسطحوا الكتاب المقدس ويختزلوه في لون واحد باعتباره حاجة واحدة بدرجة واحدة.. بيتعاملوا مع كلام آدم زي كلام إبراهيم زي داود زي المسيح زي بولس زي غيرهم بطريقة كله في الكتاب وكله واحد وكله كويس وكله ينفع.. ده تسطيح مُفسد لعمق التضاريس والاختلافات واﻷزمنة والخبرات الروحية المتعددة والثرية جدا.. مينفعش ناخد من وحدة المصدر الإلهي ذريعة لمساواة المسيح بحمار بلعام تحت زعم إن كلاهما نطق بكلام الله! وطبعا بنلاقي الناس القوية النينجا دي بتحمل الفيلسوف بولس مسؤولية التسطيح الردئ وكأنه قال “كله عند العرب صابون”!
بولس الرسول لما قال “كل الكتاب هو موحى به من الله” بالتأكيد مكنش يقصد كتابنا الحالي واللي ضم رسائله، اللي اتكتبت قبل أناجيل، ضمن الوحي.. مكنش الكتاب الحالي إكتمل أساسا ولا اتختم بخاتمة سفر الرؤيا! خصوصا إن بولس نفسه في كورنثوس كان بيتكلم في مسألة معينة (مدونة حاليا في الكتاب الحالي في رسائله) وقال إنه بيقول رأيه الشخصي فيها إنما الله مقالوش حاجة.. مش وحي..
“.. أقول لهم أنا، لا الرب: ..”
(1كو 7: 12)
“وأما.. ، فليس عندي أمر من الرب فيهن، ولكنني أعطي رأيا”
(1كو 7: 25)
“أظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر”
(1كو 7: 26)
“هذا أقوله لخيركم، ليس لكي ألقي عليكم وهقا، بل لأجل اللياقة”
(1كو 7: 35)
“ولكن إن كان أحد يظن أنه ..” – “.. فليفعل ما يريد”
(1كو 7: 36)
“.. بحسب رأيي، وأظن أني ..”
(1كو 7: 40)
“لست أقول على سبيل الأمر، بل باجتهاد آخرين”
(2كو 8: 8)
“أعطي رأيا في هذا أيضا”
(2كو 8: 10)
مع بولس الكتاب المقدس ابتعد عن لوحي الشريعة والنص المنقوش بأصبع الله، ودخلنا في ترجيح واستحسان بشري تماما.. الطفولة المرتبكة مع الله انتهت، ودخلنا في نضج وأخذ قرارات وتأسيس هيراركي ونظام كنسي في مساحة الله سايبها للإنسان.. والكنيسة نفسها عدلت على بولس نفسه وأخدت قرارات استحسان إضافي فوق كلامه (لأنه مش كلام منزل) زي مثلا تبتل الأساقفة بالمخالفة لما هو مكتوب نصا “ليكن الأسقف بعل امرأة واحدة” – و”له أولاد” يستشف منهم طرقه في التنشئة – “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُدَبّرَ بَيْتَهُ، فَكَيْفَ يَعْتَنِي بِكَنِيسَةِ اللهِ؟”
فلو “كل الكتاب وحي” يبقى عظيم جدا والله.. وقتها كل الأساقفة النينچا الغير متزوجين دول، هيكونوا موضوعين بالمخالفة للوحي المنزل على بولس الرسول، واحنا لا نملك وقتها إلا أن ندعوهم لترك مناصبهم و أسقفياتهم والتوبة عن خطاياهم وترك الفيسبوك واليوتيوب والعالم القذر الجميل بتاعنا، والعودة للأديرة!
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟