إنه لأمر أوضح من أن نتبينه، هو أننا في أمسِ الحاجة إلى أن نعيد تعريف الصوم المسيحي، وأن نتخلى عن المفاهيم الجامدة التي تعكس ضربًا من الأصولية والتدين الأعمى الذي لا يمت بصلة لما علمنا إياه السيد المسيح، بل ويتنافى مع أبسط أسس المنطق أحيانًا كثيرة. لذا، دعنا نحلل ما نؤمن به تحليلًا يتعقبه إلى الجذور، ملقيين نظرة صادقة على تعريف الصوم الحقيقي الذي يدنيه من غايته.
يظن البعض أننا نصوم صومًا نباتيًا لأن الطعام النباتي يجعلنا أقل ميلًا إلى العنف، وأتعجب من ذلك الطرح الأقرب إلى خيال الأطفال حين يتصورون أن أكل اللحم هو الذي يجعل الأسد عنيفًا، كما لو أن العنف ليس من طبيعته، وكما أننا نستطيع أن نحول أي حيوان أليف الطبع إلى وحش مفترس بإطعامه اللحم! وهذا الطرح بقدر ما ينافي المنطق، بقدر ما يتعارض مع ما قاله السيد المسيح حين نفى وجود أي صلة بين ما يتناوله المرء من طعام وبين ما يرتكبه من خطايا:
“لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِسُ الإِنْسَانَ، بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ هذَا يُنَجِسُ الإِنْسَانَ.”
(الإنجيل بحسب متى 15: 11)
وعلاوة على ذلك، إذا كان التخلي عن العنف والخطايا يتم بهذه السهولة عن طريق تناول بعض الوجبات التي تجعلنا لا نخطئ، ما هو عمل المسيح في حياتنا إذًا؟ ما حاجتنا له؟ فالأمر في غاية البساطة؛ يمكننا أن نتبرر بأنفسنا حين نتجنب أكل اللحم، ونربأ بأنفسنا عن العنف والشر، ونتحول إلى قديسين! يذكرني هذا الطرح السطحي بتلك الإعلانات التي دائمًا ما نراها عن منتجات بها من السحر ما بها لتخلصك من الوزن الزائد في غضون أيام ودون مشقة. هكذا أصبح تصورنا عن الصوم، فهو نظام غذائي سحري يخلصك من الخطية في غضون أيام.
دعنا الآن، عزيزي القارئ، نعطف إلى تاريخ الصوم في الكنيسة، وكيف كان الآباء يصومون. في وقت مبكر من القرن الثاني، نجد في النصوص المسيحية المبكرة مثل الديداكي (تعليم الرسل الاثني عشر) إشارات إلى أيام الأربعاء والجمعة كأيام صيام؛ ففي الفصل الثامن من الديداكي نصح الرسل المؤمنين بما يلي:
“لا تصوموا مع المرائين [اليهود]، المراؤون يصومون يوم الاثنين والخميس، أما أنتم فصوموا يوم الأربعاء ويوم الجمعة.”
(الديداخي / الديداكية)
ولا يوجد ذكر لأي أصوام أخرى في الديداكي. وبذلك يتكشف لنا أن الصيام أٌقيم على عكس أيام الصيام العبرية التي كانت يومي الإثنين والخميس، وفي وقت لاحق، أضاف المسيحيون معنى جديدًا لهذه الأيام – كذكرى أيام خيانة المسيح وموته؛ أي أن القصد الأصلي هو الصيام وتدريب النفس، ولم يختر الرسل يومي الأربعاء والجمعة إلا لكي يمتازوا عن اليهود فقط بسبب الاختلاط الشديد حين ذاك.
ورجوعًا إلى شهادة القديس إبيفانيوس القبرصي، في القرن الرابع الميلادي، فإن الصوم الكبير كان يقوم على تناول وجبة واحدة خالية من اللحم في اليوم، ويُعتقد أن هذا التراث استمر إلى أن جاء مجمع ترولو في القرن السابع، ليصبح بذلك أول مجمع كنسي ينهى عن أكل اللحم ومشتقاته في الصوم الكبير؛ حيث كان المسيحيون يتناولون مشتقات اللحوم، من بيض، وجبن أثناء الصوم. (مجمع ترولو – القانون 56 – المصدر: كتاب الشرع الكنسي ص584)، واستمر هذا التقليد حتى يومنا هذا في الكنيسة الأرثوذكسية. ومن الجدير بالذكر أن مجمع ترولو هو مجمع غربي، أقيم في روما وحضره 215 أسقفًا، جميعهم من الإمبراطورية الرومانية الشرقية — أي أنه لم يصدر من كنيسة الإسكندرية القبطية. وبهذا يتضح لنا أن طريقة الصوم ليست بفرض ثابت، بل شكل نظامي يتغير مع الزمن.
ومن أبرز الأصوام التي اعترتها تغييرات عدة هو صوم الرسل، فقد تغير مرارًا وتكرارًا، ولكن للاختصار، يكفي أن نذكر فقط أن الرسل، كما هو موضح بسفر أعمل الرسل، قد صاموا عشرة أيام بعد صعود المسيح لانتظار موعد حلول الروح القدس، وكان الصوم من أجل الخدمة، وانتظار مسحة الروح. لكننا الآن نصوم بعد حلول الروح – أي بعد إتمام الموعد والغرض الذي صام الرسل من أجله في الأساس – ونعيد في عيد استشهاد بولس وبطرس، ألا ترى معي أن صوم الرسل قد فقد دلالته وغرضه؟ فنحن لم نعد نقتفي إثر الآباء الرسل.
أتريد ما هو أكثر؟ تعلمنا الدسقولية أن الصوم بعد حلول الروح غير مستحب لأنها أيام فرح. تقول الدسقولية:
“ومن بعد أن تكملوا عيد الخمسين عيدوا أيضاً أسبوعا آخر ومن بعد ذلك صوموا أسبوعا آخر، لأنه واجب أن نفرح بمحبة الله التي دفعها لنا.”
(الدسقولية، الباب ٣١)
لم يرَ الرسل الصوم بعد حلول الروح مناسبًا، وفضلوا أن يبتهجوا بتلك العطية. فماذا تقول؟
هل مازلت تظن أنك تتبع قوانين الكنيسة الأولى كأنما لو أنها قد سبكت في قالب؟ هل تظن أنك على الصراط المستقيم و”متمسك” كما تحب أن تتفاخر؟ وللأسف الشديد، يظن بعض البسطاء من المرضى المطالبين بتناول البروتين لأسباب صحية بأنهم لو اتبعوا نصائح الطبيب، سيخرقون القاعدة ويرتكبون إثمًا في حق الله والكنيسة. وهذه غرابة ينبغي لأي قارئ للتاريخ الكنسي أن يدهش لها! فالقوانين تغيرت بالفعل!
معنى الصوم الحقيقي
الصوم يقوم على حرية الإرادة، هذا هو مربط الفرس: أن تتخلى عما تحب، إن كان طعامًا، أو شرابًا، أو أفعالًا، أو مواقع التواصل التي تستغرق منا ساعات طويلة، بكامل اختيارك، ودون قانون أو رقابة، لأنك تريد أن تقوي إرادتك وتخصص وقت للعبادة. فما قيمة أن تستبدل المكونات الحيوانية بمثيلتها من النباتيات لكي تصنع ما تشاء من أطعمة وتستمتع بنفس المذاق في النهاية؟ وهناك أمثلة لا حصر لها، لا أريد أن أخوض في ذكرها؛ فكلنا يعلمها تمام العلم. أنت تفقد حرية الاختيار، فانتبه. خيرٌ للإنسان أن يصوم شهرًا واحدًا بصدق على أن يصوم عشرة أشهر وهو يخدع نفسه.
ونجد في بستان الرهبان هذا المقطع الرائع الذي يوضح أن المؤمن يتعامل مع الصوم كحالة دائمة، لا كموسم أو عادة، فحينما يجد المؤمن أن شيئًا ما قد غلب إرادته، ينقطع عنه من تلقاء ذاته:
“أذاعوا في برية مصر أن الصيام الكبير قد بدأ، فمر أخ بشيخ آبير وقال له: “لقد بدأ الصوم يا أبي“. فقال له الشيخ: “أي صيام يا ابني؟“. فقال له الأخ: “الصيام الكبير!“. فأجاب الشيخ وقال له: “حقًا أقول لك، أن لي هنا 53 سنة، لا أدري متى يبدأ الصوم الذي تقول لي عنه ولا متى ينتهي!”
(بستان الرهبان 346)
فالراهب الشيخ لا يهمه متى يبدأ الصوم ومتى ينتهي، هو يحاسب ذاته باستمرار كأي إنسان سوي، ناضج.
ويتعجب جورج حبيب بباوي من منع غير الصائمين من التناول قائلًا إن الكهنة يعاملون من لا يصوم في الأيام المحددة كما لو كان مقطوعًا من شركة المؤمنين كليًا. فكيف تمنع جسد الرب ودمه عن ابن لله –كما يُمنع غير المؤمن– لمجرد أنه لا يصوم معك في الوقت ذاته؟ وقد ذكرنا أن الأيام تتغير، والمهم هو أن تصوم، لكن اليوم والساعة لا تهم.
“فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ”
(رسالة بولس الرسول إلى أهل كورنثوس 2: 16)
“الأَطْعِمَةُ لِلْجَوْفِ وَالْجَوْفُ لِلأَطْعِمَةِ، وَاللهُ سَيُبِيدُ هذَا وَتِلْكَ”
(رسالة بولس الرسول إلى أهل كورنثوس 1: 13:6)
“لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلًا وَشُرْبًا، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُوحِ الْقُدُسِ.”
(رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 14: 17)
“لاَ يَزْدَرِ مَنْ يَأْكُلُ بِمَنْ لاَ يَأْكُلُ، وَلاَ يَدِنْ مَنْ لاَ يَأْكُلُ مَنْ يَأْكُلُ، لأَنَّ اللهَ قَبِلَهُ.”
(رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 14: 3)
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟