لعِظة عيد القيامة مكانة مميزة في التاريخ الكنسي، فهي من قديم الأزل تسجّل لكل بطاركة كرسي الإسكندرية تحت مسمى “العظة الفصحية”، وعِظة العيد لهذا العام لقداسة البابا تواضروس الثاني كانت عن “الغفران”، وجعلتني أشرد في أفكاري بعيدًا عن قدسيّة الحدث.
وفي الحقيقة أن لشرودي سببًا موضوعيًا. يحدث دائمًا عند سماعي لأيّ خطاب نظريّ، أن أحاول جاهدًا استجواب الذاكرة بحثًا وعصرًا وتفتيشًا عن نماذج واقعية معاصرة طبّقت الكلام النظري، إذ وقتها فمن الممكن استلهام تجارب “الغفران الممكن” من الواقع البشريّ الممكن التطبيق. فالمسيح كان وسيظل نموذجًا كاملًا وطوباويًا في مثاليّته بشكل معجّز ومستحيل، وقررت أن أشارككم بعض من شرود أفكاري ونماذج الغفران التي لامست وجداني بقوّة.
أقوى غفرانات معاصرة رأيتها كانت نموذج “سارة حجازي”، وربما يزعجك هذا، لكن لو صبرت قليلًا فلربما ترى بعيوني.
الانتحار هو جريمة قتل قام بها إناس لن يدانوا يومًا..
مجتمع كامل يشارك في جريمة.. ثم يتظاهر بالحياد..(سارة حجازي، جزء من إحدى مدوّناتها)
تلك كانت وجهة نظر “سارة” نفسها عن الانتحار؛ أنه جريمة قتل قام بها المجتمع كله،،
وعلى هذا، فمن الطبيعي أنّ نظنّ أنّها ستُحمّل المجتمع بمسؤوليّة انتحارها لاحقُا… لكن ليس هذا ما حدث!
إلى أخوتي
حاولت النجاة وفشلت، سامحوني.
إلى أصدقائي
التجربة قاسية وأنا أضعف من أن أقاومها، سامحوني.
إلى العالم
كنت قاسيًا إلى حد عظيم! ولكني أسامح.(سارة حجازي، رسالة تركتها وقت انتحارها)
ثلاث سطور قصيرة، كلها عن الغفران والضعف… في الدوائر المقربة الأخوة والأصدقاء كانت تطلب غفرانهم، بينما في الدائرة الأبعد كالمجتمع أو العالم (الذين يُفترض تحميلهما بمسؤولية موتها) فعلت العكس وقدمت هي غفرانًا له!
تظل سارة حجازي، الملحدة، نموذجًا مسيانيًا في الغفران غير المشروط بل وغير المُسبب! لقد ذكر قداسة البابا أننا نقول في الصلاة الربّانية: واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا
، أما صديقتنا، الملحدة، فطبقت صلاتها لا إلى الله فحسب، بل في إخوتها وأصدقاءها الذين ترى الله فيهم، طبّقته على نفسها وغفرت لشيطانها الأعظم؛ المجتمع، أنت، الذي وصفته “القاتل الغير مُدان – القاسي العظيم”، بغفران مجّانيً غير مُبرر، وربما غير منطقي، كي تتحرر من أي شعور بالذنب تجاه موتها، وفعلت كل هذا فقط لكي نعرف أنه في عمق الضعف واليأس، يمكنك أنً تتحولّ، بالغفران، إلى قوّة عظيمة ملهمة للكثيرين من الأحياء.
شيئان أختلف فيهما مع الغالبية عن سارة؛ أنها ملحدة، وإنها مثليّة جنسيًا…
ففي الأولى أنا أراها ذات إيمان من نوع خاص وطراز تطبيقي فريد لهذا الإيمان الغير معنون بدين محدد.
أما في الثانية، فهي كانت “كويريّة”، وربما لا تعلم أن “المثلية” هي ميول تصف الانجذاب الفطري وليست بالضرورة أن يتحول هذا الميل لدافع سلوكي. الراهب مثلًا؛ لو كان نموذجيًا؛ فيفترض أنه ذو ميول جنسية غيريّة، لكنه آثر قمع هذه الميول وألا تتحول لسلوك تطبيقي مشروع. الكويريون هكذا. هم رهبان المثلية الجنسية الذين تركوا العالم يتجادل حول ميولهم ونواياهم وطبائعهم وضمائرهم وطرق معاقبتهم وحرقهم، لكنهم آثروا قمع ميولهم المثليّة وألا تتحول لسلوك أو ممارسة من أي نوع.
وبعد ما شاركتك أفكاري، نأتي للسؤال: هذا نموذج تطبيقي واقعي للغفران، ليس به قدسيّة أو لاهوت أو ميتافيزيقا من أي نوع؛ فهل يمكن لأحد منّا نحن مجتمع القديسين الأرفع أخلاقًا والأضبط إيمانًا، أن نجاري نموذج الغفران الذي قدمته سارة؟
بصدق، أرتعد عند تذكّر سارة كارتعاد نبيّ يقف في حضرة رئيس ملائكة..
وكفى،،
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟