توجد بعض النقاط في هامش كتاب البيذاليون والتي يبدو أن واضعها هو مُجمِع الكتاب، أي نيقوديموس، يحاول فيها أن يوضح سبب وجود قوانين الطهارة الجسدية.
تبدأ هذه النقطة بتعريف مصطلح “الطمث” (انظر لاويين 15: 19، ولاويين 15: 25) ويتناول بعدها السؤال التالي: “لماذا جعل الله هذه الخاصية الجسدية الطبيعية التي وضعها بنفسه في المرأة غير طاهرة؟” يدي الله خلقت المرأة، بكل خصائصها الطبيعية، جيدة في جنة عدن، وبالتالي لا يمكن أن يعتبر جزء من تكوين المرأة الجسدي خطية أو غير طاهر.
يقول ق. يوحنا ذهبي الفم وثيؤدور وديؤدور يتفقوا مع الأوامر الرسولية التي تؤكد ألا يوجد ما يفصل الإنسان عن الروح القدس سوى انعدام التقوى أو الأفعال الخاطئة. لماذا إذن نرى هذا الموقف بين الآباء حيث يروا الطمث غير طاهر؟
كما سبق وقلت، يصف لاويين 15 أشياء جسدية تجعل الإنسان غير طاهر سواء ذكر أم أنثى. الآيات من 1 إلى 15 تصف كيف أن الإفرازات الجسدية غير الطبيعية تنجس الرجل.
يرى معظم مفسري الكتاب المقدس في العصر الحديث (ويتفق معهم ق. يوحنا ذهبي الفم) أن هذه الإفرازات غير الطبيعية راجعة لأمراض السيلان أو الأمراض التناسلية. ويلزم الشخص أن يمر سبعة أيام ثم يقدم فرخي حمام ككفارة لكي يتطهر. ونفس الشيء ينطبق على النساء فترة حيضهم. لهذا نرى أن الإفرازات غير الطبيعية الإرادية التي تكونت نتيجة لممارسات جنسية غير شرعية تتساوى مع الطمث الطبيعي اللاإرادي الذي دوره أن يعطي الحياة.
وبمزيد من القراءة نجد أن أغلب الظن كانت هذه محاولة لمنع الرجال من الاضطجاع مع زوجاتهم وقت طمثهن حيث أنهم في ذلك الزمن اعتقدوا أن الأطفال الذين يحبل بهم وقت الطمث كانوا أكثر ضعفًا بل وحاملين للأمراض (البرص بشكل خاص).
” بناء على ذلك وضعوا قانونًا أن الأبرص يُطرد خارج المدن بعيدًا عن كل التعاملات الإنسانية، فبهذا يمنع الآباء والأمهات من العلاقة الجسدية وقت الطمث بسبب النجاسة حتى لا يكن لهم أولاد مصابين بالبرص ومنبوذين بسبب ذلك… بالإضافة إلى ذلك، أمر الله أن يعدم الرحل الذي يضطجع مع امرأته فترة طمثها (لاويين 20: 18 وحزقيال 18: 6). ولهذه الأسباب، ولتثبيت الورع والمخافة لا في قلوب النساء فقط بل أيضًا لطيش وعنف الغريزة الجسدية لدى الرجال سواء في العهد القديم أو حاليًا في الجديد من خلال القديسين، فمنع الله هذه النساء من المجيء للهيكل بالكلية أو أن يشتركوا في الأسرار الإلهية ”
(القديس إيسيذوروس)
وبالوصول لهذه النقطة، ينبغي أن نؤكد أن الطب لا يعتبر البرص مرض جيني يمكن انتقاله من الآباء للأبناء سواء تمت العلاقة الجسدية خلال فترة الطمث أم لا. وحتى من تم الحبل بهم “بالطريقة الطبيعية” يمكن أن يصابوا ببكتيريا البرص. بالتالي فحجة ديونيسيوس لا أساس طبي لها، حيث إن البرص مرض بكتيري ولا علاقة له على الإطلاق بطريقة الحمل.
ثانيًا، ينبغي أن نلاحظ كيف أن القيود وضعت على جنس واحد لحل مشكلة من المفترض أن سببها هو الجنس الآخر. فمن غير المنطقي أن نلوم المرأة بسبب عدم قدرة الرجل على التحكم في نفسه داعين إياها غير طاهرة في وقت حيضها بدم الحياة.
ثالثًا، تعد جملة “طيش وعنف الغريزة الجسدية لدى الرجال” في إشارتها للرجال قاسية جدًا ولا أساس لها. فهي تعذر وتتغاضى وتوصم العنف الجنسي كشيء طبيعي وهذا يعتبر خطية. على العكس، ينبغي أن يُشجع الرجال الذين قبلوا المسيح وأصبحوا قادرين على ضبط أنفسهم أن يسلكوا بالفضيلة.
قد يرى ثيؤدوريت أن هذا القانون يكرم النساء ويحميهم من رجالهم غير القادرين على ضبط أنفسهم. إلا أنه في الحقيقة مثل هؤلاء الرجال هم يمتازوا بوحشية لا ينبغي أن تكون في الأزواج. فأين الدعوة للمحبة واحترام شريك الحياة التي يكتب عنها ق. بولس في رسالة أفسس 5: 25-28 لو كان الرجال عنيفين وطائشين؟ فلا يوجد تكريم للنساء بمثل هذا القانون. كل ما فعله هذا القانون هو أنه جعل من النساء كبش فداء لبعض الرجال الذين سيطرت عليهم غرائزهم.
قد يكون هذا السبب وافي بالنسبة لنيقوديموس، لكن من غير الممكن أن يكون هو السبب الحقيقي وراء كتابة هذا القانون لأنه يناقض تعاليم الكتاب المقدس الأساسية. يبدو لي أن التعليق التالي الذي وضعه نيقوديموس في الهامش هو السبب الحقيقي وراء هذه القوانين: أي النظافة.
النساء اللاتي في الوضع أو الحائضات، إن كن غير معتمدات، ينبغي ألا يعتمدوا؛ وإن كانوا غير معتمدين، ينبغي ألا يشتركوا في الأسرار الإلهية ما لم يتطهروا أولًا إلا في حالة الإصابة بمرض مميت.
( لاون الحكيم في “نوفل 17”)
المقصود هنا بقوله “النساء اللاتي في الوضع” هن من للتو ولدن أطفالًا ولا زلن ينزفن الدم الذي يعد غذاء للطفل على مدى تسعة أشهر. من الواضح أن هذا القانون مبني على ما ورد في لاويين 12 كما ذكرنا آنفَا.
من المثير للاهتمام كيف أن الكنيسة في محبتها وشفقتها كانت مستعدة للسماح بمعمودية وتناول المرأة الحائض والتي كانت تُنعت بـ”الخاطئة” و”المتسخة” و”النجسة” في سياقات أخرى. والكنيسة على حق في ذلك، لكن إن كان مسموحا للمرأة أن تعتمد وتتناول وهي على فراش الموت بسبب الشفقة، كذلك ينبغي أن يُسمح لها أيضًا بهذا خلال حياتها بسبب الشفقة. فنحن نحتاج سر الإفخارستيا في هذه الحياة. هدفه أن يشفينا روحيًا في هذه الحياة. فلو المسألة متعلقة بالنظافة، فمن المنطقي بالنسبة للتناول، ألا تقترب المرأة التي عليها دمها حتى تنتهي فترة الطمث، ونفس الشيء ينطبق على الشخص غير القادر على التحكم في عمليات الإخراج الطبيعية فينبغي عليهم أن ينتظروا حتى يستطيعوا التحكم في جسدهم مرة أخرى قبل أن يتقدموا للعماد.
ومن القوانين غير الموجودة في كتاب البيذاليون، قانون من قوانين الآباء الرسل يرجع للقرن الثاني الميلادي ومقبول كقانون أصيل—وتعتبر الكنيسة الأرثوذكسية قوانين الآباء الرسل ملزمة—وهذا القانون سبق تاريخيًا كل القوانين السالف ذكرها حيث ينص على:
” فلو تظني، أيتها المرأة، أنه خلال سبعة أيام حيضك أنك مقفرة من الروح القدس، فهل لو انتقلتِ خلال السبعة أيام، هل تنتقلي فارغة وبلا رجاء؟ لكن إن كان الروح القدس دائمًا فيكي، بدون عائق حقيقي، فلماذا تنقطعي عن الصلاة وقراءة الكتاب المقدس والإفخارستيا؟ فلو أن الروح القدس فيكي، فلماذا تبعدي ذاتك عن الاقتراب من أعمال الروح القدس؟ لهذا، يا محبوبة، اتركي عنك هذه التقييدات إذ قبلتي الانحلال منها فلا ينبغي أن تقيدي نفسك بها مرة أخرى ولا تحملي نفسك بمثل هذه الأشياء التي رفعها عنك ربنا ومخلصنا. ولا تنظري لمثل هذه الأشياء، ولا تظنيها نجاسة، ولا تمنعي نفسك بسببها، ولا تبحثي عن نوع من الرش أو المعمودية أو التطهير من مثل هذه الأشياء ”
(من قوانين الآباء الرسل في القرن الثاني الميلادي)
فهذا القانون يبين أن الطريقة الوحيدة التي تجعل المرأة تشعر بامتلائها من الروح القدس هي أن تشترك بالكلية في جدة حياة المسيح بما فيها الشركة في سر الإفخارستيا.
يصير من الطبيعي بالنسبة للنساء اللاتي يسمعن دومًا أنهن غير طاهرات وقت طمثهن وأنهن مندرجات مع الخطاة، أن يمتنعن عن الصلاة أو قراءة الكتب الإلهية، أو أن يشتركوا في أي جانب من جوانب إيمانهم، إذ أنهم طالما سمعوا أنهن غير طاهرات وعلى هذا غير مستحقات للاقتراب من الله وأنهن حتى لو تجرأن وطلبنه في ذلك الوقت، فلن يقبلهم. بالتالي، يصير سلوك النساء منذ القديم سلوك المجروحين روحيًا.
تحتاج الكنيسة أن تعيد النظر في أثار هذه القوانين على نمو النساء الروحي وعلى الآباء الروحيين وآباء الاعتراف أن يستخدموا موهبة الإفراز التي أنعم بها الله عليهم وقت تعاملهم مع بناتهم الروحيات.
واضع القانون السرياني السابق لاحظ الآثار الروحية الضارة الناتجة، وبوعي بذل جهده في تضميد هذه الجراح.
في هذا القانون أيضًا نجد الإجابة على السؤال السابق عما إذا كان هناك طقس لتطهير النساء. فإذ أن النساء لا يصرن غير طاهرات بسبب طمثهن فيقول لهم القانون ألا يطلبوا تطهرًا من مثل هذه الأشياء وبالتالي لا يقدم (القانون) طقس تطهير في هذه الحالة.
والعجيب أن النقطة التي أضافها نيقوديموس في هامش قانون ديونيسيوس، يتعامل فيها مع القانون السرياني السالف ذكره ويتفق مع جزء منه، ولكنه يختلف مع القانون في سماحة للنساء أن تقتربن في هذا الوقت للإفخارستيا معللًا ذلك بأن هذا الجزء جاء كإضافة متأخرة.
لاحظ أن الرسل سمحوا لهؤلاء النساء أن يصلين ويذكرن الله فقط تمامًا كما جاء في قانون ديونيسيوس الذي يأذن بهذين فقط. لكن لا يسمح لهم بالشركة في الإفخارستيا ولا الذهاب للكنيسة. لأن ما كتب على هوامش المخطوطة (الجزء الذي جاء في الهامش هو الخاص بالشركة في الإفخارستيا) ليس له تأثير كاف أو بلا تأثير على الإطلاق، حيث أنه غير موجود في صلب ما جاء في التوصيات المسجلة في المخطوطة.
لكن هذا الموقف (الذي اتخذه نيقوديموس) يثير العديد من التناقضات. أولًا، أجمع الآباء على أن النساء وقت طمثهن لا يصبحن مقفرات من الروح القدس. كلهم يؤكدوا على أن الله خلق النساء وينبغي ألا ينقطعن عن الصلاة لخالقهن. وهذا يتفق مع ما سبق وذكرناه، أي إن ما خلقه الله لا يمكن أن يعتبر نجسًا. إلا أن ما كُتب في الهامش يعود ويناقض نفسه بقوله: أنه على الرغم من امتلائهم بالروح القدس خلال طمثهن، إلا أنهم ممنوعين من دخول الكنيسة والشركة في الأسرار. أو بطريقة أخرى يمكننا أن نقول أن الروح الساكن في هؤلاء النساء ممنوع من دخول بيته هو الذي فيه يتحرك ويقود وينعم علينا بحوله على التقدمة الإفخارستية.
إلا أننا نؤمن أن الروح لا يمكن أن يُحد ويتحرك حيث يشاء وله الحرية في أن يخلص الجميع. فلو أن الروح حاضر في هؤلاء النساء فمن الطبيعي أن يقودهن لملء الحياة في المسيح وهذا يتضمن الشركة في الإفخارستيا. أما بالنسبة للإضافة التي وضعت في هامش القانون الرسولي العائد للقرن الثاني، فالكاتب (أي نيقوديموس) يتوقع أنه إضافة متأخرة. وأنا أتوقع أنه من المحتمل أن الإضافة كانت موجودة في النص الأصلي ثم تم حذفها بناء على أسباب لا أساس لها ثم تم إضافتها مرة أخرى بواسطة ثمة شخص لاحظ أن الروح القدس أينما وُجد لابد أن يُحرك الشخص نحو ملء الحياة في المسيح.
العجيب أن ما يلي هذا الجزء من الهامش يحاول القضاء على أي سؤال أو حجة لموقف “المنع” الذي اتخذه قانون دينونيسيوس. فيقول:
” ونحن نرد عليهم بهذه الإجابة الحقيقية الواثقة وهي أننا لا يجب علينا إلا أن نلتزم ونطيع ونتبع القوانين بطاعة تامة وألا نجلس على كراسي القضاء فاحصين ما أمر به الروح القدس ولا نستمر بالقول لماذا هذا ولماذا ذاك؟ لئلا نجلب على أنفسنا العقوبات الرهيبة التي تأتي على من يتعدوا القوانين ”
(جزء من هوامش كتاب البيذاليون)
من الواضح أنه حتى آنذاك كان هناك جدل حول هذا القانون. وإلا فلماذا يحاول كاتب الهامش أن يقدم حجة ضد القائلين “لماذا هذا ولماذا ذاك؟” ففي النهاية يطلب ما يطلبه متحججًا بسلطة الروح القدس. إلا أنه لو كان هذا القانون موضوع بواسطة الروح القدس لما حمل هذا الكم من التناقضات التي تمنع حرية الروح القدس نفسه. أليس المسيحيون مدعوون لامتحان الأرواح ليتأكدوا أنها من الله؟ (1 يوحنا 4: 1). وكيف يمكن لشخص عاقل أن يساوي بين ما يخص السيل المنوي من الرجال والناتج عما ظنه الآباء استحلامًا ناتجًا عن أحلام شهوانية مملوءة بروح الشهوة وبين دم الحياة الذي أعطاه الله للمرأة؟
من الواجب التنويه أن من حكموا على قانون القرن الثاني الميلادي السرياني وحاولوا دحض صلاحيته هم من يلتفتوا ويقولوا لنا أنه لا ينبغي أن نجلس في كراسي القضاء وألا نكون فاحصين للقوانين التي أتت فيما بعد. فماذا لو أن القانون الأقدم الذي كُتب في غضون مئة عام بعد المسيح يوضح بطريقة صحيحة ما علمه ربنا ومخلصنا؟ فنحن غير مدعوين أن نتبع أراء شخصية. نحن مدعوين للبحث عن الحق، وأن نفرز من تعاليم الآباء ما هو بشري وما هو بواسطة الروح القدس.
ينبغي أن نوقر آباء الكنيسة ونضعهم في مكانة عالية. لكن علينا أيضًا أن نتذكر أنهم بشر من نتاج عصرهم وأنهم قابلين للخطأ. وفي عصرهم، لعبت النظافة الصحية دورا هاما. فنظرًا لأن السبب المنطقي الوحيد لعدم السماح للنساء بدخول بيت الرب وقت طمثهن هو لمنعهن من أن يلوثوا بيت الرب ولأنه لا يوجد سبب لاهوتي ولأن الأسباب المتعلقة بالنظافة لم تعد موجودة في عصرنا، فيجب على الكنيسة أن تعيد النظر في هذه القوانين.
يجب أن نفهم أن هذه القوانين كانت عملية لزمنها. أما بالنسبة لمجتمعنا الذي يفهم الجسد الآن بطريقة أكثر تقدمًا والذي تطورت نظافته بطرق تسمح للمرأة أن تذهب وتأتي وهي نظيفة، فقد أصبحت هذه القوانين موضع تساؤل. فقد حان الوقت أن تضع الكنيسة الحاجة الروحية للمرأة التي عليها دم الحياة كأولوية. حان الوقت لكهنتنا وآباءنا الروحيين أن يستخدموا الإفراز في فهمهم لهذه القوانين وأن يضعوا الصحة الروحية لبناتهم الروحيات في المقدمة.
منع التناول هو أمر جد خطير ويسبب ضررًا لا على الروح فقط بل أيضًا على المستوى النفسي والعاطفي. فلو طهر البنات الروحيات أنفسهن من الداخل بالتوبة والاعتراف بخطاياهن وكانوا بالحقيقة عطشى للمسيح، يصير من الواجب على أباءهن الروحيين أن يقدموا لهم الرحمة والحنان سامحين لهم “بالاقتراب في إيمان ومحبة وخوف الله” لسر ربنا الإلهي.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر