شهدت الأيام الماضية مجموعة من الأحداث والوقائع وثيقة الصلة بالمواطنة، أخرها اعتداءات طائفية من متطرفين على الأقباط في قريتي الفواخر والكوم الأحمر بمحافظة المنيا -270 كم جَنُوب القاهرة- بسبب حصولهم على تصاريح بناء كنيسة أرثوذكسية في الأولى وإنجيلية في الثانية، مما أغضب متطرفين في محاولة لمنع بناء تلك الكنائس. وقبل تلك الحادثتين، استخدم مجلس الوزراء خطاب لا يعتبر المسيحيين مواطنين بشكلٍ كافٍ، بالرغْم من محاولة تقديم شيء إيجابي لهم بمناسبة الأعياد.
أود أن أُشير إلى أن مِلَفّ الطائفية شهد بعض التحسن في بعض الأمور فرغم كل ما يحدث فإن معدل الاعتداءات الطائفية على الأقباط قل كثيرًا عما كان قبل عام 2011 والأعوام التالية له، وتكاد تنحصر في محافظة المنيا -الأعلى في معدل الاعتداءات- دون غيرها من المحافظات.
وأعود لخطاب مجلس الوزراء تجاه المواطنين المسيحيين، والبداية كانت يوم 20 أبريل الماضي بخبر على الصفحة الرسمية للمجلس وتصريحات على لسان المتحدث الرسمي المستشار محمد الحمصاني، الذي أعلن عن وقف تخفيض الأحمال الكهربائية المتبع من وزارة الكهرباء على الكنائس خلال فترة أسبوع الآلام وعيد القيامة بسبب الصلوات والاحتفالات، أسوة بما فعلت الحكومة طوال شهر رمضان وعيد الفطر، وهذا أمر جيد منها بمنع التمييز بين المواطنين، لكنه استخدم مصطلح “الأخوة الأقباط”.
الحكومة أرادت تقديم “تورتة” لكن تم شويهها باستخدام مصطلح “الإخوة الأقباط”، في خبر المتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء، بدلًا من استخدام مصطلح “المواطنين المسيحيين”. شعبيًا، من الجيد أن يقول المواطنين لبعض إنهم أخوة، لكن الدولة يجب أن تخاطبهم كمواطنين، ففعل الدولة هنا بوقف تخفيف الأحمال يدل على أنها تحاول أن تتعامل دون تمييز، وهذا جيد، لكن يلزم هذا أيضًا استخدام خطاب وثقافة داعمة للمواطنة تجاه كل المواطنين المصريين أيًا كان دينهم أو لونهم أو جنسهم، وسأوضح أهمية هذا فيمَا بعد.
الخبر التالي الذي أثار جدلًا واسعًا، كان قرار رئيس مجلس الوزراء دكتور مصطفى مدبولي بترحيل إجازة عيد العمال الموافق 1 مايو من كل عام، وجاء يوم أربعاء إلى يوم الأحد الموافق 5 مايو وهو يوم عيد القيامة غير المدرج كيوم إجازة رسمية لكل المواطنين المصريين، ويحصل عليه فقط المواطنين المسيحيين بعد عناء مع بعض جهات العمل المختلفة. ولاقى هذا القرار سخرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي على شاكلة “عيد العمال المجيد”، و”عيد قيامة العمال”، وغيرها من العبارات التي انتشرت على السوشيال ميديا، والبعض تذكر ما حدث عام 2021 وقت انتشار فيروس كورونا فقد منح مجلس الوزراء المواطنين إجازات رسمية بمناسبة عيد العمال وشم النسيم، وجاء يوم الأحد الموافق عيد القيامة وسط تلك الإجازات الرسمية التي بدأت من يوم الخميس، فقررت الدول منح يوم الأحد إجازة والسبب “الحد من التكدس والزحام”، وسمي وقتها بـ”عيد التكدس”.
تنتشر شائعة على لسان المواطنين أن الدولة في عهد الرئيس الأسبق مبارك أرادت تعيين عيد القيامة يوم إجازة رسمي كما حدث مع عيد الميلاد عام 2003، لكن البابا الراحل الأنبا شنودة رفض لأن المسلمين لا يؤمنون بصلب وقيامة السيد المسيح من بين الأموات، فحفاظًا على مشاعرهم رفض ذلك، لا يوجد دليل على حدوث تلك الرواية، لكن هذا دور الدولة أن تأخذ ما تراه من قرارات لصالح مواطنيها دون انتظار موافقات من أحد، وهنا اعتبار العيد إجازة رسمي لا يعني أن الدولة مطالبة بالإيمان بذلك العيد، هي فقط تحترم مواطنيها وتعطيهم نفس الحقوق ولا تميز بينهم بسبب الدين.
أعود إلى الاعتداءات على المواطنين المسيحيين في الفواخر والكوم الأحمر بالمنيا وعلاقتهم بخطاب “الأخوة الأقباط”، فخلال سنوات حكم الرئيس الأسبق مبارك درج الحديث عن المواطنة، دون تأصيل لهذا المفهوم بمعناه المتعارف عليه في العلوم السياسية، والمطبق في أغلب دول العالم الديمقراطية، بل مع كل حادث طائفي كان يتم تصدير صورة أن المواطنة هي وجود علاقات طيبة بين المسلمين والمسيحيين عبر صورة تقبيل شيخ للحية الكاهن والعكس، وكان يتم تصدير ما هو مفهوم ضمنًا بأن المواطنين المسلمين لأنهم الأكثر عددًا فلهم حقوق أكثر من المواطنين المسيحيين، مع أنه على أرض الواقع لا يوجد فرق كبير بين سكان قريتي الفواخر أو الكوم الأحمر المسيحيين والمسلمين، فغياب التنمية والفقر وقلة الخِدْمَات يشملهم جميعًا.
في أغسطس 2012 وبعد نحو شهرين من تولي مرشح جماعة الإخوان المصنفة إرهابية من الحكومة المصرية محمد مرسي، ذهبت إلى قرية دهشور -جَنُوب محافظة الجيزة- لتغطية أول اعتداءات طائفية ضد المسيحيين في عهد مرسي، استمعت من المواطنين المسلمين والمسيحيين عن أسباب الأحداث المباشرة، اكتشفت وقتها أنهم جميعًا يعانون من الفقر، وسوء مياه الشرب التي تصلهم، وعدم وجود منظومة صرف صحي جيدة، وكانت المشكلة وقتها سببًا في انفجار غضب الناس الذين عادوا ليتحدثون عن العلاقات الطيبة التي تجمع بين المسلمين والمسيحيين في القرية.
بالعودة إلى المنيا فهي واحدة من المحافظات التي تجمع مجموعة متناقضات، فهي من الأعلى فقرًا مع محافظة سوهاج، وبه أكبر عدد من المواطنين المسيحيين، وكذلك بها مجموعة مؤسسات مجتمع مدني قوية، كما أنها مقر لجماعة الإخوان ومختلف الجماعات الإرهابية، وخلال الفترة بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة في 14 أغسطس 2013، شهدت أعلى موجة عنف واعتداءات على المسيحيين من قبل الإخوان وتابعيهم دونا عن بقية المحافظات.
لذا لتفادي وقوع اعتداءات طائفية على المسيحيين، أوغيرهم، لابد أن تستخدم الدولة هيبتها بالقبض على الجناة والمعتدين ومحاكمتهم بشكل قانوني، ولا تلجأ أبدًا للجلسات العرفية والموائمات والتوازنات التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من الاعتداءات الطائفية، وكما خاضت الدولة في مِلَفّ العشوائيات وتحسين حياة المواطنين بمشروع حياة كريمة، عليها أن تولي اهتمام بقرى محافظة المنيا، فالتنمية وتحسين معيشة المواطنين، كفيلة بالحد من العنف الطائفي، وإضافة لذلك من المهم أن يساهم المجتمع المدني في التنمية والتعليم والتثقيف عبر المؤسسات المختلفة المتواجدة في المنيا.
أخيرًا أعود لخطاب مجلس الوزراء، فنحن لدينا “أزمة هُوِيَّة”، حيث تعلو الهويات الفرعية على الهُوِيَّة الوطنية والانتماء لـ”مصر”، وفي ظل ما تشهده المنطقة من حولنا من صراعات وحروب، وانقسامات وحروب أهلية في عدة دول، فمهم تعزيز الهُوِيَّة الوطنية بتأصيل المواطنة، وليس باستخدام شعارات غير حقيقية هو الضامن الوحيد لتماسك المجتمع المصري أمام التحديات التي تواجه مصر.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.