بعد أن أثبت المسيح سلطانه الفائق على الموت بإقامته لعازر من الموت، وبعد أن دهنته مريم بالطيب الغالي، فكان في اعتباره «التكفين» الحقيقي، أي مسحة الجسد وإعداده للموت، نقدم يسوع إلى الصليب ليكمل الإنجيل وليكمل كل تعاليمه وأعماله بمواجهة الآلام والموت الإرادي.

ولكن لا يفوتنا هنا أن نُلمِّح كيف بدأ الرب آياته السبع، وكيف أنهاها -بحسب انجيل يوحنا- لأن الرباط بينها وثيق.

فنحن نعلم أن بداية الآيات التي صنعها يسوع كانت في بيت أحباء له، وفي وسط أناس على استعداد للإيمان به، في عرس قانا الجليل، عندما حوَّل الماء خمرًا طيبًا، كدعوة رجاء من القديسة مريم أمه.

وأخيرًا، ها نحن في بيت الأحباء، بيت لعازر و أشد المؤمنين به. وهوذا المسيح بدعوة رجاء من مريم أخت لعازر يقيم لعازر الميت إلى الحياة، وهنا أظهر مجده كما سجّل لنا الإنجيل.

في المعجزة الأولى كان اعتراضه الوحيد على طلب مريم العذراء أمه أن ساعته لم تحن بعد، ولكن هنا وبعد ثلاث سنين وأكثر قد حانت الساعة فلا اعتراض البتة على إتيان المعجزة. وهنا يسجل لنا الإنجيل أيضا أنه أظهر مجده. وهكذا دائمًا، فالمسيح لا يجد إلا في المؤمنين به أنسب الفرص ليصنع آياته ويُظهر مجده.

ثم أيضا بعد تحويل الماء إلى خمر بدأ المسيح فورًا يعلِّم عن تغيير وتحويل الإنسان نفسه بالميلاد الجديد من فوق من السماء، من الماء والروح، لحياة أبدية جديدة. وهذه استصعبها جدا. كذلك في إقامة لعازر من الأموات أعطى الإشارة واضحة لقدرته على الإقامة من الأموات أي التغيير الكلي.

وهنا بلغت الصعوبة أقصاها عند الرافضين أيضًا، حتى أنه من شدة عدم تصديقهم عوَّلوا على قتل لعازر والمسيح، منذ تلك اللحظة!!

وهكذا بدأت آلام الموت مبكرة قبل الصليب.. ولكن ما أعجبها مفارقة بحسب المنطق، فآلام السيد بدأت علنًا فور إعلانه عن شخصيته الحقيقية عندما دخل أورشليم كملك إسرائيل، وكصاحب الهيكل. أو بحسب النبوات: السيد الذي يأتي إلى هيكله بغتة [1]، ثم تقول النبوات ومن يطيق يوم «مجيئه؟» [2].

نعم، فرؤساء الكهنة وكل معلمي ، والقائمون على المقدسات والتعليم، لم يطيقوا أبدًا هذا المنظر! لا لأنه دخل أورشليم والهيكل بعظمة فائقة، ولكن على النقيض، لأنه جاء وديعًا متضعًا راكبًا على حمار، بعكس ما كانوا يتوقعون!

لقد بدأت آلامه بالرفض الكامل والمهانة والحقد الشديد، لأنه جاء وديعًا متضعًا بما لا يتناسب وأحلام إسرائيل، وهكذا دخل المسيح من الباب الضيق، وتم فيه القول مكروه الأمة، عبد المتسلطين [3].

وهكذا، يبدأ درب الصليب مباشرة لأصحاب الحق. حينما تظهر هذه المضادة المكروهة دائمًا في أعين الرؤساء، وهي عدم احتمال المناداة بالحق من فمٍ مستضعف!!

لذلك، لحكمة بالغة جعلت أسبوع الآلام يبدأ يوم الأحد حيث في هذا اليوم بالذات تبلغ الحفاوة بالمسيح قمتها حينما تنشد الكنيسة أوصنا «خلصنا» في الأعالي يا ملك إسرائيل، مبارك الآتي باسم الرب، وفي نفس الوقت تعود في الحال تنشد الكنيسة مزاميرها بلحنها الحزايني، وترتل الإنجيل بحزن يعصر القلب، وآثار الذبيحة تكون لا تزال قائمة على المذبح.

شيئ مذهل! ولكن هذا هو مفهوم المسيح، وهذا هو مفهوم الإنجيل في وعي الكنيسة. مضادة فائقة على العقل يلتحم فيها أشد اليأس والحزن مع أشد الفرح والرجاء!! فمذخر في وعي الكنيسة وذهنها أن رفض رؤساء الكهنة للمسيح وإيذائه وإهانته وسحقه على الصليب، هذا بعينه أنشأ فرحًا بالخلاص الأبدي لا ينطق به ومجيد!!

الآلام المقبولة:

لعل أعمق ما بلغه الإنسان المسيحي من مفهوم صلب المسيح وآلامه أن الصليب بالنسبة للمسيح كان عملا إراديًا مقبولًا الكأس التي أعطانيها الآب ألا أشربها؟ [4]. بل وأكثر من ذلك أيضًا فالآلام والصليب لم تكن إرادية ولم تكن مقبولة وحسب، ولكن كانت مقصدًا وغاية، جاء المسيح ليكملها لهذه الساعة أتيت [5]!

هذا يجعلنا نترجمه -نحن المسيحيون- ترجمة فورية بأن المسيحي الذي يؤمن بالصليب حقًا لا يستعمل حقوقه في الهروب من الصليب!! وأما الإنسان المسيحي الذي أدرك عمق الصليب وأسراره، فهذا يرى الآلام جزء لا يتجزأ من إيمانه، بل ونصيبًا يعتز به ويسعد بتتميمه، وغاية يسعى نحوها بلا خوف!!

وفى التقليد الكنسي تقول الرواية أنّه لما حكم على بالصلب، عندما جاهر بإيمانه بالإله المصلوب، جزع بطرس وراوغ الحراس وهرب. فقابله الرب في الرؤيا، وقال له إلى أين أنت ذاهب يا بطرس؟ هل تريدني أن أذهب وأُصلب بدلًا
عنك مرة أخرى؟.. فاحتشم بطرس جدًا وتألم بمرارة كيف سلك هذا المسلك المشين وخان صليب سيده؟ فعاد لتوه وأسلم نفسه لصاليبه!..

وهكذا، يضيف التقليد إلى إيماننا عنصرًا هامًا وخطيرًا أنّ الذي يهرب من كأسه ونصيب آلامه إنما يحرم نفسه من نصيبه في آلام المسيح، ويصبح وكأنه محتاج أن يًصلب المسيح من أجله مجددًا!!

اليد الحبيبة الممدودة بكأس الآلام:

لم تخطيء عينا المسيح قط في التعرف على اليد التي تقدم له الآلام، فالمسيح لم يعتبر قط أيدى الأشرار الممدودة بالمطرقة والمسمار، ولا وجوه رؤساء الكهنة الفظّة الحاقدة وهى تصرخ: أصلبه.. أصلبه، بل ولم يعتبر بيلاطس كحاكم أو كناطق بحكم الصليب، ولم تعر أذنا المسيح الشتائم وألفاظ التشفي الصادرة من الحاقدين والموتورين من الفريسيين وحفظة الناموس ومقدسي السبوت؛ بل كانت عينه مثبتة على يد الآب وحدها باعتبارها هى الماسكة بالمطرقة والمسمار، وأذنه تصغي بوضوح إلى فم الآب وحده وهو يتلو منطوق العقوبة من جلد وصلب.. وقد قالها المسيح بوضوح ما بعده وضوح ليس لك سلطان عليَّ البتة إن لم ثعط من فوق [6]!!..

لقد ظن بيلاطس أنه كان بسلطانه أن يطلق سراح الرب ولا يحكم بصلبه، فراجعه المسيح في ذلك، بأن ذلك إنما هو ادعاء ووهم، وصحح له مسار القضية كلها من اتهام ودفاع وقضاء. فبيلاطس كان ينطق بما تمليه السماء!! لا بمقتضى الحكم السنهدريني الغاش، ولا بمقتضى الحكم الروماني المفسود!.. فالحكم بالآلام والموت على الصليب كان أولًا وأخيرًا ممزوجًا حبا بيد الآب الذي أحبه من قبل إنشاء العالم، بل ومن أجل حب الله للعالم!!.. فلم تكن فيه مرارة كما هو بحسب الظاهر، ولا كان ممزوجًا بحقد الحاقدين وتدبير المرائين بحسب الصورة والشكل، بل نصيبًا مفضلًا من يد الآب نفسه يحمل جوهر الحب والقيامة والحياة!!..

ولكى نستسيغ هذا النموذج العالي، علينا أن نعود إل النماذج الصغرى المبدعة للصلبان الصغيرة، مثل نموذج يوسف الشاب المبارك الذي لم يحقد على إخوته الذين ألقوه في البئر ثم باعوه بالفضة ليمضى بعيدًا في الغربة إلى مصر وحيدًا، بل كان رافعًا قلبه وعينيه إلى السماء نحو الله معتبرًا أن هذا نصيبه من يد الله مباشرة، فلم ير يوسف يد «أخيه» الخشنة الخائنة التي أدلته بالحبال إلى هاوية البئر، ولا انغلق قلبه من نحو إخوته وهم يقبضون ثمن دمه وهم يبيعونه للاسماعيليين، بل في كل هذا كان ينظر إلى اليد الخفية، يد الله نفسه، وهى تصيغ هذه الحوادث معًا. فنسمعه في النهاية يُطمئن إخوته عند افتضاح كل شيء ويقول لهم: «أنتم لم ترسلوني إلى هنا بل الله. أنتم أردتم بي شرًا ولكن الله أراد بي خيرًا» [7]!!

لقد جاء المسيح ليرفع هذه الخبرات الصغرى وهذه النماذج الفردية إلى منهج عام، وقانون إلهي، وصليب فادي كبير، ودستور عهد الله مع الإنسان الذي ختمه بدمه وضمنه بروحه القدوس، قوامه أنّ ما من ألم أو ضربة تصيب خيمتنا الأرضية إلا ووراؤها أحن يد في الوجود، يد الله، تلعب دورها بالحب الخالص!! فيد المسيح المثقوبة والتي عليها نُقش اسمنا مسبقًا، قد ضمنت خلاصنا جاعلة من آلامنا اليومية وأتعابنا التي تبدو جزافية -مع اضطهاد ظالمينا وجحود الذين يتعاملون معنا كل يوم- صليبًا جميلًا غاية الجمال يحمل لنا بذرة الحياة الأبدية، وله رائحة المسيح الزكية بشبه صليبه في المجد!!..

اغفر لهم:

وليس أدل على قبول المسيح لكأسه من يد الآب، بكل ما فيه من المهانة والفضيحة والعار والألم حتى الموت، وكأنه الحب كل الحب دون تشكك أو تبرم أو حتى معاتبة أو أنين، من قوله يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون [8] وذلك في الساعة الأخيرة عندما بلغ الألم أقصاه، وبلغت الفضيحة مداها وصار الموت على مدى شبر أو دون.

فلو لم تكن عينا المسيح مثبتة على يد الآب الممدودة بكأس الألم والموت، ما استطاع المسيح أن يتجاوز المرارة المحيطة به، والعداوة الجاهلة، والأحقاد والتشفي، والظلم الفادح، وكل الحماقات التي أملاها على الرؤساء ومقدمي الشعب وعلى التلميذ الخائن!!..

لذلك، حينا طلب المسيح منا أن ندعو في صلاتنا اليومية بالغفران للذين أساءوا إلينا، لم يكن طلبه هذا من فراغ، ولا كفرائض الناموس العاجزة عن الفداء والخلاص، بل على أساس خلفية الصليب القائم على الطاعة لمحبة الله! والذي طالبنا أن نحمله على شبهه ومثاله.

فالذي ينوي أن يحمل صليب المسيح، عليه أول وقبل كل شيء أن لا ينخدع بنظره وراء الأيدي الخشنة الصالبة لآماله ومشاعره، أو يتوه عقله في خبث نيات المتربصين ومؤامرات الحاقدين، ولكن عليه أن يثبت نظره نحو اليد المُحبة الحانية التي وضعت نير الصليب على الكتف بكل المواصفات التي تمت في صليب المسيح، كنصيب معين ومحدد بكل دقة وبحسب تدبير المحبة الإلهية التي تقيس كل شيء على قياس مجد المسيح، وباعتبار أنه مهما ثقل صليبنا ومهما تمادى العدو مع الأشرار في التثقيل بكل حماقة بالحمل الموضوع على كتفنا الضعيف، فإن اليد الإلهية تقيس بدورها أيضًا مقدار ما يناسب من ثقل المجد المقابل في صليب المسيح، بحيث لو رفع عن أعيننا -ولو إلى لحظة- الغشاوة التي ينسجها العدو ضدنا في هذه اللحظات، مع وهن النفس والملل والأعصاب المتأثرة، لأدركنا أن خفة هذا الصليب مع كل ضيقتنا الوقتية قد أنشأت بالفعل ببرهان الروح ثقل مجد أبدي موضوع لنا أمامنا في السماء ومنظور بالروح في عمق أعماق القلب مما يسهل علينا بالفعل أن نغفر بكل القلب ونتمادى في الغفران حتى إلى الدعاء والحب لكل من أساء إلينا وأضرً بنا مهما بلفت الإساءة، ومهما بلغ الضرر ولو إلى حد الموت!!..

فالحياة الأبدية بكل أمجادها الباهرة كامنة في سر الصليب الصغير الحلو الذي وضعه الرب على أكتافنا!!..

عداوة لابد منها، أما حقد الذين صلبوا المسيح فلم ينته بعد!

مجرد أن ظهرت قوة المسيح الفائقة واستعلنت معجزاته وشاعت أعماله وأقواله المنيرة الباهرة، قام رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون وكل من كان يتعيش باسم الدين ومن وراء خدمة الدين يشككون أولًا، ثم يهاجمون ثم يتربصون ويصطادون الكلمات والأعمال. وأخيرًا كان لابد من التآمر في الخفاء واتخاذ للازم بأقصى سرعة للقضاء على هذا الدخيل قبل أن تضيع هيبتهم وتكسد تجارهم، بحسب تعبير رئيس الكهنة نفسه.

فالذي يلزم ويتحتم أن يبرز أمام أعيننا تجاه السبب المباشر في الوقوف ضد المسيح وصلبه من حيث تصرف العالم نحوه، يمكن تلخيصه في جملة واحدة هى «نجاح المسيح الباهر»، نجاحه في الرفع من روح الشعب وفهمه للناموس وإسعاد الناس عامة، وعلى وجه الخصوص الخطاة والمنبوذين والمذلين والمرفوضين والمسحوقين والمرضى بأمراض ميئوس منها والمأسورين برباط الشياطين!!..

‏مرة أخرى، نجاح المسيح وحبه وحنانه ولطفه هو سبب كل آلامه وصليبه، هذا من جهة العالم!! أما من جهة الله الآب، فكان الأمر عكس ذلك تمامًا، ففي الصليب كانت قد تقررت المشورة الأبوية بموافقة الابن بكل الطاعة والرضى، لإنقاذ العالم حتى لا يهلك كل من يؤمن بالمسيح وآلامه. فالصليب هو الفلك الجديد الذي يحمل من كل المستويات، الذي يسير وسط طوفان العالم وتهديدات الموت حتى هذه الساعة، لكى يبلغ بحامليه إلى شاطئ عالم السلام الأبدي.

‏ونفس نوع العداوة التي أظهرها جنود عالم الظلمة ورئيسه من نحو المسيح المخلص، ومع كل أحقاد الصالبين من رؤساء وشيوخ، التي كانت تتحرك من دوافع ذاتية للمنفعة مع تعصبهم الأعمى المزيف للحرف، فلا تزال كما هي حق الآن، تصوّب بنفس الجهالة والتعصب الأعمى المزيف نحو كل من عزم أن يعلن المسيح في حياته ويسير على ‏أثر خطواته.

أسبوع الآلام، صورة جديدة للألم بقلم ، نُشر أوّل ما نُشر في ، عدد مارس ١٩٧٩، الصفحات من ۳ إلى ۹
هوامش ومصادر:
  1. ملاخي ٣ : ١ [🡁]
  2. ملاخي ٣ : ۲ [🡁]
  3. إشعياء ٤٩ : ٧ [🡁]
  4. يوحنا ١٨ : ١١ [🡁]
  5. يوحنا ١٢ : ٢٧ [🡁]
  6. يوحنا ١٩ : ١١ [🡁]
  7. تكوين ٤٥ : ٨ وتكوين ٥٠ : ٢٠ [🡁]
  8. لوقا ٢٣ : ٣٤ [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

متى المسكين
Website  [ + مقالات ]

اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله