نسطور، أو نسطورس، أو نسطوريوس [Νεστόριος] كان بطريرك القسطنطينة من ٤٢٨م إلى ٤٣١م.
بحسب المصادر المشرقية، ولد نسطورس عام ٣٨١م بمدينة مرعش في سوريا، وتربى في أنطاكية، وترهبن بدير أيروبيوس، وتتلمذ على يد ثيؤدورس المصيصي [1]، واختير ليكون شماسًا ثم قسًا في كاتدرائية أنطاكية، واشتهر بفصاحته وقوة عظاته. ولكونه درس اليونانية ومبادئ العلوم في مرعش ثم تشبع بمبادئ مدرسة أنطاكية اللاهوتية، لذلك اختاره الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني ليكون بطريركًا على كرسي القسطنطينية.
يؤكد المؤرخ الكنسي سقراط القسطنطيني أنّه كان متكبرًا ومعجبًا بنفسه [2]، ولكن مع ذلك، هناك العديد ممن أحبوه ورأوا أنّه بذل ما في وسعه لإزالة جميع أشكال الهرطقة في الكنيسة. فقد حارب في زمانه هرطقات السيموساطين والآريوسيين والمقدونيين والأبوليناريين والنوفاتيين والأفنوميين والفالنتينيين والمونتانيين والمركيونيين والبوربوريين والمصلّين والأفخيتيين والدوناتيين والبولسيين والمركلوسيين والمانويين والمكدونيين وغيرهم. [3]
تصادم مع الجميع، الرهبان، الراقصين الجوّالين ومسارح الشارع، السياسيين، اللاهوتيّين، طبقة الإرستقراط وأصحاب السلطة ومن بينهم الإمبراطورة بوليكاريا أخت الإمبراطور. وفي كل خطوة كان معارضيه يزدادون يومًا بعد يوم، ليس فقط من عامة الشعب أو الأباطرة وحدهم بل أيضًا من آباء الكنيسة.
دين ودولة
بعد إعلان مرسوم ميلان سنة ٣١٢م، قام الإمبراطور قسطنطين بإنهاء اضطهاد المسيحيين. وفي سنة ٣٢٤م جعل الديانة المسيحية ديانة الإمبراطورية الرومانية، وتوغلت السياسية وأصبح لها دور كبير في قيادة الكنيسة مما جعل السياسيين أنفسهم آباء روحيين لها. ونتج عن ذلك كثير من التداخل مع مجامع الأساقفة، فقد كان الإمبراطور يتخذ المبادرة في دعوة لعقد المجامع بين الكنائس لتسوية الخلافات التعليمية، وبهذه الصورة أضحت الكنيسة سجينة الإطار السياسي والفكري الحاكم، ولكن في نفس الوقت كان هذا المرسوم بمثابة مرسوم خلاصي للمسيحيين الذين كانوا يعيشون تحت وطأة الحكم الروماني الوثني، بعكس المسيحيين الذين كانوا يعيشون تحت ثقل الحكم الساساني.
جلوس ملوك الروم على عرش القسطنطينية رفع مرتبة الكرسي القسطنطيني وفاق الكرسي الإسكندري منزلة. أيضًا الإعلان الذي أصدره الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير آخر أباطرة الإمبراطورية الرومانية المتحدة، بتقسيم الإمبراطورية بين ابنيه، جعل من القسطنطينية [روما الجديدة] مركزًا ثقافيًا كبيرًا وكانت محط أنظار جميع الفلاسفة. وفي عهد أركاديوس ابن ثيؤدوسيوس وفي ٣٩٨م، صار يوحنا ذهبي الفم بطريركًا على القسطنطينية، بعد حفل كبير رأسه البطريرك ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية، واحد من أسوأ الأساقفة الذين عرفتهم كنيسة الإسكندرية، والذي كان يريد ضم القسطنطينية لنفوذه بجعل إيسذورس الكاهن السكندري أسقفًا على روما الجديدة. [4]
ذهبي الفم والقسطنطينية
بعد اعتلاء يوحنا ذهبي الفم لكرسي القسطنطينية بدا عمله سريعًا في إصلاح أوضاع الكنيسة الإدارية، وشرع يسن قوانين جديدة للآباء الكهنة وللرهبان، وحارب الآريوسية، وتصادم مع الأرستقراطيين وبالأخص صديقات الإمبراطورة إفدوكسيا زوجة الإمبراطور أركاديوس، والتي كان يوبخها ويشبهها بإيزابيل الملكة لعدم أطاعتها القوانين الكنسية، إلى أن طفح الكيل بإفدوكسيا وأرادت أن تتخلص منه، فاستعانت بالبطريرك ثاؤفيلس السكندري لكي ينتقم منه بالقوانين الكنسية. [5]
في قصة رهبان أمونيوس، “الإخوة الطوال”، الذين هربوا من برية شيهيت مصر إلى أورشليم ثم القسطنطينية في حماية ذهبيّ الفم، استغلّت الإمبراطورة إفدوكسيا هذه القضية فأشاعت أنّ ذهبيّ الفم منع الرهبان عن الرجوع إلى مناسكهم، ودبرت للتخلص منه بواسطة مجمع كنسي، وفعلًا تم عقد مجمع برئاسة ثاؤفيلس السكندري وصديقه إبيفانيوس أسقف سلاميس، وبدأت محاكمة ذهبيّ الفم في قصر السنديانة، وكتب المجمع بحضور البطريرك ثاؤفيلس رسالة وجهها إلى يوحنا يأمره بان يمتثل أمام المجمع، لكن يوحنا وأساقفته رفضوا وكتبوا رسالة يرفضون فيها الحضور لان المجمع غير شرعي وغير قانوني، ولكن المجمع لم يهتم لذلك وحاكموه غيابيًا واصدر حكمًا برئاسة البطريرك ثاؤفيلس بنفي يوحنا فم الذهب. [6]
بعد أن سمع ذهبيّ الفم بحكم النفي، شرع بتنفيذه طواعيّة متسللًا من القصر الأسقفي خشية الشعب الذي سيثور إذا عرف أن بطريركه تم نفيه. لكن الشعب حتى بعدما عرف متأخرًا، ثار، وخافت الإمبراطورة فركضت إلى زوجها الإمبراطور الذي نصحها بمراسلة ذهبيّ الفم فورًا وطلب عودته. فكتبت إفدوكسيا بنفسها رسالة إلى ذهبي الفمّ تقول فيها أن الرجل الذي تم نفيه هو رجل صالح، وأن الله ينتقم له، وترجو البطريرك بالعودة.
رجع يوحنا فم الذهب بين رعيته من جديد أقوى مما كان، وسرعان ما عاد الخلاف للظهور مجددًا، فاستعانت بثاؤفيلس السكندري وأساقفته مجددًا، والذين طلبوا تدخل الإمبراطور ثيؤدوسيوس هذه المرة. فتم إرسال حامية عسكرية إلى ذهبيّ الفم في يوم سبت النور وهو في الكنيسة، وأمروه بترك كرسيه والعودة للمنفى، فرفض، فاستعمل الجنود العنف، وجرت مذبحة جرت فيها الدماء في الكنيسة كالأنهار. وهرب ذهبيّ الفم مرة أخرى حقنًا للدماء، فألقي القبض عليه وُسجن، وتقرر نفيه إلى خلقيدونية، ثم نيقية، ثم إلى كيركوز، ثم إلى منطقة كومان حيث توفيَّ [7].
صراع الإسكندرية والقسطنطينية
نعلم أنّ بطريرك القسطنطينيّة تشبع بمبادئ مدرسة أنطاكية اللاهوتية، ففي أنطاكية كان اللاهوتيون والمفسّرون أكثر ميلًا إلى النظرة الارسطوطالية، ومهتمّين بالحقائق الملموسة والمرئية، ويعتمدون على التفسير الحرفي للكتاب المقدّس باللجوء إلى المعلومات التاريخية والتحليل العقلي والمقارنة بين أقوال الكتاب المقدّس والنظريات الفلسفية. ففي إقرارهم بألوهية المسيح كانوا يبدأون من طريق حياته الإنسانية الأرضية. [8] أما مدرسة الإسكندرية، فكانت أكثر ميلًا إلى الأفلاطونية وإلى التفسير التأويلي الرمزي للحقائق. فالأمر الذي كان يغلب على اهتمام أساتذة الإسكندرية في المسيح كان لاهوته أكثر من ناسوته. [9]
وكان هذا الاختلاف في الأسلوب المدرسي ومنهاجيّات التفسير بين المدرستين السكندريّة والأنطاكيّة يزداد حدّة بسبب النعرة العنصرية والتنافس على الكراسي الأسقفية. يمكننا أن نلاحظ النعرة القومية في الصراع بين الإسكندرية والقسطنطينية متجليّة بشكل واضح في كلمات ومراسلات البطاركة ثاؤفيلس وفم الذهب.
في خضم صراع الكراسي، راسل ثاؤفيلس ذهبي الفم باعتباره البطريرك القبطي
[10]، وإنّه: وإن كان يجب أن أُحاكم، تكون محاكمتي أمام المصريين، ولا أن أحاكم أمامك، أنت [يقصد ذهبيّ الفم] الذي يفصلنا عنك طريق يستغرق خمسة وسبعين يومًا!
[11]
بالمقابل، يعظ ذهبي الفم متسلقًا على جدار الدين لتوجيه ضربات قوميّة لخصمه القبطي بشكل إنتهازي وعنصري ضد الأقباط والمصريين، مثلاً نجده في تفسيره للرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي، وعندما يتحدث عن يوسف كعبد في بيت فوطيفار المصري، يقول: كان يقدم حساباته لمصري. وأنتم تعرفون أن هذا الجنس [يقصد المصريين] مندفع، يثأر لنفسه. إذا ما نال سلطة لا يمكن وقف غضبه.
[12]
نسطور والقسطنطينية
الأحداث التاريخية التي وقعت بين يوحنا ذهبي الفم، بطريرك القسطنطينية، وبين ثاؤفيلس، بطريرك الإسكندرية، والتي شاركت فيها الإمبراطورة إفدوكسيا، زوجة الإمبراطور أركاديوس. قد تم توريثها جميعًا بسيناريو مشابه للجيل التالي والمتمثل هذه المرّة في: نسطوريوس، بطريرك القسطنطينية، وكيرلس عمود الدين، بطريرك الإسكندرية، وإبن أخت البطريرك السابق ثاؤفيلس، أيضًا الإمبراطورة بوليكاريا ابنة الإمبراطورة إفدوكسيا.
في سنة ٤٠٨م وبعد موت الإمبراطور أركاديوس، أصبح ابنه ثيؤدوسيوس الثاني إمبراطورًا على الامبراطورية الرومانية الشرقية، لكن هذا الأخير كان صغير العمر، وتأثر بأخته الكبرى بوليكاريا التي لعبت دورًا كبيرًا في خلع نسطورس بطريرك القسطنطينية معيدة نفس قصة أمها باختلاف بعض التفاصيل.
على طريقة ذهبيّ الفم، لكن من دون حكمته وتروّيه، شن نسطورس هجومًا عنيفًا على البدع الهرطوقية، حارب في زمانه هرطقات السيموساطين والآريوسيين والمقدونيين والأبوليناريين والنوفاتيين والأفنوميين والفالنتينيين والمونتانيين والمركيونيين والبوربوريين والمصلّين والأفخيتيين والدوناتيين والبولسيين والمركلوسيين والمانويين والمكدونيين وغيرهم. قد يبدو لك هذا أمر جيّد وعلامة إيمان، ربّما، لكنها أيضًا من علامات العنف الذي يتسامح معه المؤرخون لانحيازاتهم الدينيّة. مثلًا ينسب إليه سقراط القسطنطيني قيامه بهدم كنيسة آريوسية، لكنه يبرأه من حرقها وحرق الآريوسيين أحياء فيقول: وحرق الآريوسيون أنفسهم إنتقامًا وكانوا قد استعدوا لهذا الغرض.
لكنّه مع ذلك يعود فيذكر تسمية المحيطين لنسطوريوس بـ الحارق عن عمد
[13] كذلك سجل التاريخ كونه قدوة سيئة لأساقفته في إثارة حوادث العنف مثل أنتوني أسقف جرما ومضايقته للمقدونيين، والذي على أثره إستصدر نسطورس مرسومًا إمبراطوريًا بالاستحواذ على كنائسهم. [14]
كان نسطورس أيضًا سائرًا في عمليات تطهير عنيفة داخل الكنيسة وربما كان لها الدور الأكبر في فقده الحلفاء والمتاعب التي عانى منها بعد ذلك، نذكر أنّه أعاد الرهبان الذين كانوا يعملون ككتاب في القصر الإمبراطوري إلى قلاياتهم بعدما كانوا يخالطوا السياسيين ووضع عليهم شروطًا خاصة تحظر نزولهم العالم، وتصادم أيضًا مع الفنون الشعبية وفرق الراقصين الجوّالين ومسارح الشارع بسبب أزيائهن غير المحتشمة، وفي الوقت نفسه كان معارضيه يزدادون يومًا بعد يوم، ليس فقط من عامة الشعب أو السياسيين وحدهم بل أيضًا من آباء الكنيسة.
أيضًا استمر الصراع بينه وبين بولكاريا ابنة إفدوكسيا والتي ورثت عن والدتها إدارة شؤون الأساقفة، واحتدم الصراع حين أرادت وضع رداءها كإمبراطورة على المذبح المقدّس، وأن تقدّم لها “الطاعة المريميّة”. فأتى نسطور ليفسد التحكّم الامبراطوري النسوي ويخبرهن بأنهن: لسن مريم! [15].
أفكار نسطور
إنّ التعابير اللاهوتية التي استعملها نسطورس لوصف تجسد المسيح كانت تستخدم مفردات: طبيعتان، أقنومان، في شخص واحد. وهو النمط التقليدي السائد في القسطنطينية، والمدرسة الأنطاكيّة، بل وسائر الأباء اللاتين عمومُا. كما لم يكن أول من وعظ ضد استعمال لقب «والدة الإله» للعذراء مريم، بل يوجد لاهوتيين سبقوه. [16]
نشأت الأزمة عندما ألقى أنسطاسيوس، وهو كاهن قسطنطيني محلّي تابع لرئاسة البطريرك نسطورس، في ٢٢ نوفمبر ٤٢٨م، عظةً اعترض فيها على استخدام لقب ثيؤطوكوس [والدة الإله (الله)] كما يُطلق على مريم. شعر الكثيرون بالتشكّك، لأنّ هذا المصطلح كان مستخدمًا في الأدبيّات المسيحية منذ فترة طويلة. أمّا نسطورس، الذي كان قد أعربَ عن شكوكه في هذا الموضوع، فقد ساند أنسطاسيوس وبدأ في يوم عيد الميلاد سلسلةً من الخطب التي تجادل بأنّ مريم ليست والدة الله.
إعتبر نسطورس أنّ مصطلح “والدة الإله” كما يُطلَق على مريم، لم يُصغ بعناية ملائمة، وأن الـ”ثيؤ” [لاهوت] ﻻ يعبّر عن ناسوتية المسيح، وعلى هذا فإنّه يهدم إنسانيّة المسيح الكاملة. وسنكتفي هنا باقتباس حرفيّ من المؤرخ الكنسيّ سقراط القسطنطيني باعتباره المصادر الأوليّة لهذا الموضوع [17] :
قد اطلعتُ بنفسي على كتابات نسطوريوس فوجدته رجلًا أميًا. وسأعبِّر بصراحة عن اقتناعي الذهني الخاص بي، وسأشير بحريّة شخصيّة تامّة خاليّة من أيّة كراهيّة شخصيّة إلى أخطائه دون تحيّز لخصومة الّذين يُحطّون من قدره.
إنني لا أستطيع إذن أنّ أسلِّم بأنّه من اتباع بولس الساموساطي، أو من اتباع فوتينوس، أو أنّه أنكر ألوهيّة المسيح، ولكنه بدا خائفًا من لقب “ثيؤطوكوس” كما لو كان شبحًا مخيفًا. وفي الحقيقة التحذير الذي أبداه هنا بلا سبب قد كشف بجلاء عن جهله المدقّع. فكونه رجلًا يتمتّع بطلاقة طبيعيّة في الحديث جعلته يُعتَبر مُعلمًا جيّدًا، ولكنّه في الحقيقة كان أميًّا بدرجة مخزيّة. ففي الواقع ازدرى بعناء الفحص الدقيق للمفسّرين القدماء، وانتفخ باستعداده للخطابة، ولم يهتم بالقدماء بل ظنّ في نفسه أنه أعظم الجميع.
لقد كان، كما هو ثابت، غير ملمٍ بما فيه الكفاية بالحقيقة التي وردت في رسالة يوحنا الرسول المكتوبة في النّسخ القديمة:
كل روح ينفصل عن يسوع ليس من الله. إن تشويه هذه الفقرة يُعزَى إلى أولئك الّذين يرغبون في فصل الطبيعة الإلهيّة عن التدبير البشري، أو استخدمنا ذات اللغة التي للمفسرين القدماء. قد أفسد بعض الأشخاص هذه الرسالة هادفين إلى فصل ناسوت المسيح عن لاهوته. ولكنّ الناسوت متحد بالألوهيّة في المُخلص بحيث يشكّل ليس شخصين بل شخصٌ واحدٌ فقط. ولهذا السبب كان القدماء، اعتمادًا على هذه الشهادة، لا يترددون في نعت مريم بثيؤطوكوس، لأن يوسيبيوس بامفيليوس فى الكتاب الثالث من “حياة قنسطنطين” يكتب ما يلي: “وفي الواقع الله معنا، لقد قَبِل أن يولّد من أجلنا، وأن يُدعَى مكان ولادته بالعبرانية بيت لحم، حيث زيّنت الإمبراطورة التقيّة مكان الولادة من العذراء الحاملة لله [God-bearing] بأفخم الزخارف وزيّنت تلك البقع المقدسة بأفخر الحلى”. وكذلك أوريجينوس في المجلد الأول من تعليقاته على رسالة الرسول إلى الرومان. يُعطي مثلًا كافيًا للمعنى الذي يُستخدَم فيه مصطلح ثيؤطوكوس [Theotocos]لذلك، من الواضح أن نسطوريوس كان إلمامه قليلًا جدًا بتفاسير القدماء، ولهذا السبب اعترض كما لاحظتُ على هذا المصطلح فقط، لكنّه لم يؤكّد أنّ المسيح مجرد إنسان كما فعل فوتينوس أو بولس الساموساطي، فإن عظاته المنشورة تظهر ذلك. ففي هذه العظات لا يُلغى [نسطوريوس] في أيّ مكان شخصية كلمة الله السليمة، بل على النقيض، يحافظ بثبات على أن له شخصيّة ووجود جوهري ومتميز. ولم يُنكِر قط طبيعته مثلما فعل فوتينوس والساموساطي، ومثلما تجاسر المونتانيون والمقدونيون عليه أيضا.
هكذا وجدتُ نسطوريوس، في الواقع، من خلال قراءاتي الخاصة لكتاباته ومن خلال تأكيدات المعجبين به. ولكن خلافه الخامل الذكر هذا لم يُسفر سوى شغبًا قليلًا في العالم الديني.
(سقراط القسطنطيني، التاريخ الكنسي، الفترة ٣٠٦م-٤٣٩م، الكتاب السابع، الفصل الثانى والثلاثون، ف٤-۸)
في وسط الانقسام الذي خلّفته عظات نسطورس، بدا لكثيرٍ من الناس أن نسطورس نفسه إنجرف للدفاع عن ناسوتيّة المسيح بشكل يبدو وكأنّه ينكر ألوهيّة المسيح ويعدّه مجرد إنسانٍ تبنّاه الله ابنًا له. وفي خضمّ الجدل الناتج عن ذلك، وجد خصوم نسطور حليفًا لاهوتيًّا في القدّيس كيرلّس عمود الدين، بطريرك الإسكندرية، والذي أدّى تدخُّله إلى سلسلة من الأحداث المتسارعة التي قادت في النهاية إلى سقوط نسطورس.
محاكمة نسطور
كان دافع كيرلس ذا شقّين. كان يعتقد بصدقٍ أنّ نسطورس يهدم نقاوة الإيمان؛ فمسألة رفض نسطورس أن يصف مريم بأنّها والدة الإله بدت لكيرلس أنّه ينكر وحدة الإله-الإنسان أو بالتعبير السكندري يُنكر وحدة الكلمة المتجسّدة
. وبصفته بطريركًا للإسكندرية، كان كيرلس حريصًا أيضًا على التقليل من شأن كرسي القسطنطينيّة المنافس، كما فعل خاله وسلفه المباشر، ثاؤفيلس، في قضيّة يوحنا الذهبي الفم. وهكذا تم الخلط بين الاعتبارات اللاهوتية والسياسية وصراعات الكراسي. وعندها صرخ نسطورس بما سجّلته كل كتب التاريخ الكنسيّ [18]:
فلتُدعَ مريم ثيؤطوكوس إن كنتم تُريدون، وليكفّ كل نزاع.(نسطوريوس،التاريخ الكنسي لسقراط القسطنطيني، الفترة ٣٠٦م-٤٣٩م، الكتاب السابع، الفصل الرابع والثلاثون، ف٣)
ناشد كلٌّ من الطرفين البابا سلستين الأول، الذي كان قد شعر بالإهانة من عدم لباقة نسطورس. وفي أغسطس ٤٣٠م، عقد سلستين مجمعًا كنسيًّا في روما قرّر فيه أن الكريستولوجيا الصحيحة تتطلّب استخدام مصطلح “والدة الإله” وطلب من نسطورس أن يتبرّأ من أخطائه. وعندما أصدر كيرلس، الذي كان مخوّلًا بتنفيذ الحكم على نسطورس، سلسلةً من الحرمانات الاستفزازية [19] ليمثل إلي تعاليمها أو يواجه الحرمان الكنسي، شعر نسطورس وحلفاؤه بالقلق، وأقنع الإمبراطور ثيؤدوسيوس بعقد مجمعٍ كنسيّ مسكونيّ. كان نسطورس يأمل أن يسفر المجمع عن إدانة كيرلس. ولكن عندما انعقد المجمع في أفسس عام ٤٣١، وجد نسطورس نفسه في موقفٍ ميؤوسٍ منه أمام كيرلس.
أُدينت تعاليم نسطورس، وعُزل من كرسيه، وأُجبر ثيؤدوسيوس [20] على التصديق على هذه القرارات، ونُفي نسطورس إلى ديره السابق بالقرب من أنطاكية. بعد أن قبع هناك في المنفى لمدة أربع سنوات (٤٣١-٤٣٥)، نُقل إلى الواحة الكبرى [الواحات الخارجة الآن] في الصحراء الليبيّة حوالي عام ٤٣٦، ثمّ نُقل بعد ذلك إلى بانوبوليس [مدينة إخميم، بمحافظة سوهاج الآن] في صعيد مصر. وخلال فترة نفيه كتبَ كتاب هرقليدس الدمشقي
الذي كان يقصد من خلاله الدفاع عن تعاليمه وتاريخ حياته. وهي الرسالة الوحيدة التي بقيتْ من كتاباته كلّها، وقد اكتُشفت عام ١٨٩٥، في ترجمةٍ سريانيّة. وتوفّي نسطورس في بانوبوليس [إخميم] حوالي عام ٤٥١ مدافعًا عن أرثوذكسيته [استقامة إيمانه] [21].
ومع ذلك، يظلّ من المشكوك فيه ما إذا كان نسطورس نفسه قد علّم أو كان ينوي تعليم البدعة التي سُمِّيت باسمه. في الواقع، لقد تبرّأ نسطورس من مثل هذه الآراء، وكانت هجمات كيرلس عليه مبنيةً على سوء فهم أو سوء ظن، وميراث لاهوتيّ مغاير، وعداء قوميّ ورثتة القسطنطينية والإسكندرية، مع وجود خلفية سياسيّة ومصالح إمبراطورية في تحجيم دور القسطنطينية عبر شيطنة أساقفتها العصاة على طاعة الأباطرة.
تظل الحقيقة اللاهوتيّة والتاريخية هي أن نسطورس أكّد مرارًا وتكرارًا على الوَحدة الكاملة للمسيح المتجسّد، وأنكر أي اقتراح بوجود أقنومين موجودين جنبًا إلى جنب في جوهره. يمكن فهم نسطورس بشكلٍ أفضل على أنه كان ضحيةَ شخصيّته المتعصّبة وخطابه الاستفزازيّ الفظّ، وأنّه كان الخاسر في إحدى المنافسات بين الكراسي الأسقفيّة والبطريركيّات الكبرى، التي كانت سمةً من سمات ذلك العصر.
تم سحق النسطورية داخل الإمبراطورية الرومانية لكنها نجت خارج حدودها. وقد تبنتها الكنيسة المسيحية في بلاد فارس، وذلك إلى حد كبير للحصول على حماية حكامها من خلال التأكيد لهم أن دينها ليس دين أعدائهم الرومان. تستمر النسطورية حتى اليوم، على الرغم من قلة أتباعها، حيث توجد مجموعات في العراق والهند وإيران وسوريا وأمريكا الشمالية والجنوبية، ومؤخرًا: أستراليا.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب نقدي: اللاهوت السياسي، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: لاهوت التحرير، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب البابا فرانسيس: أسرار الكنيسة ومواهب الروح القدس