أنا هو نور العالم، عظة أُلقيت على إنجيل قداس أحد التناصير، للأب .

إنجيل قداس اليوم، إنجيل النور، إنجيل الأعمى الذي جعله المسيح يبصر.

وطقس الكنيسة يحدد أنّ هذا اليوم هو أيضًا أحد التناصير. إذ معروف أن الكنيسة في العصور الأولى ربطت بين إنجيل الأعمى وطقس المعمودية ربطًا شديدًا. ويوجد في سراديب روما التي من القرن الثاني نقوش بالفريسكو لإنجيل الأعمى تحت عنوان العمودية كشرح لعملها السري. كذلك يربط الآباء جميعًا بين إنجيل الأعمى وطقس المعمودية في عظاتهم مثل القديس في المقالة ٣‏ على الأسرار.

تذكرون أنّه في يوم الجمعة الماضي كان موضوع إنجيل القداس الميلاد من فوق كضرورة حتمية لرؤية الملكوت، فالمسيح يؤكد ل الذي كان ير يد أن يعتمد على حذقه في معرفة كمعلم وكمن يرى الحق أو النور، يؤكد له أنّه مخطئ ويجري وراء السراب، ثم صحح له الوسيلة والطريق: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله [1]. والرؤيا هنا كما قلنا هي رؤية القلب أو رؤية المعرفة. أي إن الميلاد من فوق أو «المعمودية» هي الطريق الوحيد لرؤية ومعرفة الملكوت.

والمسيح في إنجيل هذا اليوم، وهو يعطي نور البصيرة للأعمى، يكمل ويدعم ما قاله لنيقوديموس، إنما بواسطة المعجزة التي جعلها آية لصدق دعوته أنه هو «النور» و «الحياة»، فهو يجعل الأعمى يبصر وكأنه يقول لنا أن الإنسان بالإيمان بالمسيح قد انفتح أمامه مجال تجديد خلقته بلا حدود. والدعم هنا في تفتيح عين الأعمى يتجه إلى ناحيتين:

الأولى: أن المسيح نور بالحق، فهو قادر أن يقهر الظلمة بصورة مادية على مستوى خلقة أعين جديدة تنقل الإنسان من ظلمة العمى إلى نور النظر، وإشارة وتأكيدًا للوضع الروحي النور أضاء في الظلمة والظلمة لم تدركه [2]. النور هنا ينتقل من المسيح إلى الإنسان بالفعل. ويتحقق بصورة واقعية وملموسة أن المسيح هو نور العالم وكقوة قاهرة للظلام!!

والثاني: أنّه قادر أن يجعل الذي كان بلا عين أصلًا منذ ولادته الأولى يبصر. ومعروف أن كل نقص في الخلقة للمولود كان يعتبره اليهود عقابًا سمائيًا بسبب الخطيئة، لذلك كانت الذبيحة ينبغي أن تخلو من كل عيب في العيون. وهنا يظهر المسيح أنه قادر أن يعطي حواسًا جديدة للإنسان، وإن كانت هنا على المستوى المادي فهي إشارة مبدعة وآية عملية على قدرته على إعطاء حواس جديدة على المستوى الروحي. كما تحمل ضمنًا وبصورة حاسمة قدرة المسيح على تصحيح خلقة الإنسان كإشارة عميقة لقدرته على خلقة الإنسان كليًا خلقة جديدة تنقله من حالة النقص إلى حالة الكمال.

العلاقة بين المعمودية ورؤية الملكوت:

ولكي يشرح لنا المسيح بصورة مادية العلاقة الأساسية القائمة بين المعمودية وبين القدرة على رؤ ية الملكوت، أعطى الأعمى أمرًا (كلمة) أن «يغتسل بالماء» لكي يبصر. فالاغتسال بالماء هنا كطاعة لكلمة المسيح الروحية أو الإلهية إشارة سرية عميقة لفاعلية المعمودية بالماء باسم المسيح أو بقوة الكلمة الحية. ومعنى هذا أن الماء الذي يعطي ميلادًا بالروح من فوق في المعمودية هو أيضًا يُعطي بالروح بكلمة المسيح بصيرة لرؤية النور.

ولكي يكشف الإنجيل عن «السر» المحيط بالماء الذي فتح عيني الأعمى، حتى لا يُظن أنه مجرد ماء وبوضعه الظاهري، حدد له المسيح بالذات، ثم أعطى المسيح بنفسه تفسيرًا لاسم هذه البركة سلوام قائلًا: الذي تفسيره «مُرسَل» απεσταλμένος [3].

والإشارة هنا تتجه نحو المسيح نفسه مباشرة، لأنه هو المرسَل الحقيقي الذي قد أرسله الآب بحسب تعبير المسيح نفسه، أي إن الاغتسال في بركة سلوام يستمد سر فاعليته من صميم رسالة المسيح.

كذلك معروف أنه في عيد المظال هذا الذي صنع فيه المسيح معجزة الأعمى، كان يُعمل فيه طقس تذكار الصخرة، والصخرة كانت المسيح [4] حيث كان رئيس الكهنة يملأ بنفسه جرة فضية (عوض الصخرة في بريّة سيناء) من ماء سلوام و يصبها على المذبح.

أي إن ماء سلوام الذي فتح عيني الأعمى كان هو هو رمز المسيح نفسه «المُرسَل» لهذا الغرض عينه، أي لإعطاء الحياة والنور للناس. وهذه إشارة غاية في العمق والسرية، ترفع من مفهوم الماء في المعمودية إلى معنى طبيعة الكلمة في إعطاء الحياة والاستنارة وحواس جديدة للإنسان المولود من فوق، تؤهله لرؤية الملكوت وقبول الحياة الأبدية.

معجزة المولود أعمى:
شرح لعمل المسيح في المعمودية:

إذن فإنجيل قداس اليوم يشرح لنا قمة عمل المسيح في المعمودية بصفته النور والحياة في ماء سلوام. وهذا تطبيق عملي رائع لما قاله القديس يوحنا في بدء إنجيله فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس [5] فماء المعمودية وإن كان لا يزيد في شكله وطبيعته الظاهرية عن ماء بركة سلوام، إلا أنه في جوهره -بسبب كلمة المسيح- هو حياة ونور لخليقة جديدة.

ماء العمودية هو لنا جميعًا ماء سلوام الروحية -أو بحسب تعبير القديس يوحنا ذهبي الفم «ماء المُرسَل» [6]، ماء المسيح، الماء الحقيقي الحي والماء الذي أنا أعطي ينبع إلى حياة أبدية [7] الذي منه أُعطِي للإنسان أن يُخلق جديدًا بالحق!! هنا محاولة قوية وعجيبة من الإنجيل ليشرح لنا سر ماء المعمودية بطبيعته الجديدة، ماء بركة سلوام الجديدة، الذي كل من يغتسل فيه ينال بطاعة الكلمة واسم المسيح الحياة الجديدة والبصيرة السمائية لرؤية النور الحقيقي… ولهذا اعتُبرت المعمودية في طقس الكنيسة الأرثوذكسية موهبة الحياة الجديدة وموهبة الاستنارة معًا بآن واحد!! حيث يعبَّر عنها في الطقس بحمل المُعمَّد لشمعة في يده وهو خارج من جرن المعمودية وبثيابه البيضاء، المشروح معناها في سفر الرؤيا أنها تعبير عن نصرة الحياة الجديدة المبيضة في دم الخروف، أي تعبيرًا عن الحياة الجديدة للمُعمَّد؛ والشمعة أنه كان أعمى والآن يبصر. حيث يصبح عليه في الحال أن «يخبر بفضل الذي دعاه من الظلمة إلى نوره العجيب» [8]، والظلمة هي دائمًا حياة الخطيئة، والنور هو حياة البر والقداسة والحق في المسيح.

المسيح هو حياة ونور الخليقة الجديدة:

وإنجيل الأعمى يشير إلى المسبح كمصدر حياة ونور: حياة بسبب العين الجديدة كليّة التي خلقها له المسيح، والنور لأنه أبصر فرأى العالم حوله. ويمتد الإنجيل ليشرح لنا كيف انتقل هذا الأعمى مرة أخرى وبنقلة روحية أعلى من ظلمة المعرفة إلى نور الحق، حتى أنه شهد للمسيح دون أن يراه، بل وشهد له بقوة حجة أذهلت الفريسيين.

وينبغي أن نلتفت جدًا أن الأعمى حينما اغتسل في بركة سلوام وعاد بصيرًا، كان المسيح قد ترك المكان، فلم يجده الأعمى، وبالتالي لم يره بعينيه أو يتعرف عليه!! [9]. وبالرغم من ذلك دافع عن المسيح معتبرًا إياه نبيًا. وشهد له بلا أدنى خوف أو حذر من تهديد الفريسيين بطرده من المجمع إزاء إصراره على الشهادة للمسيح. وبالفعل طردوه، فقبل هو هذه العقوبة المرعبة التي تُفقده كل الحقوق التي للمواطن الإسرائيلي دون أن يندم أو يهتم بمصيره الشاق…

لكن كان إزاء هذه الشجاعة المخلصة والأمانة لفضل المسيح، باعتباره مجرد إنسان نبي، والتي كلفته الطرد من رعوية إسرائيل؛ أن ظهر له المسيح وأعلن له حقيقة نفسه: أنه إبن الله لكي ينال بالإيمان به الخلاص، فآمن وخر ساجدًا له. فتم فيه قول المسيح الله طالب هؤلاء الساجدين له بالروح والحق [10] فصار الأعمى بالضرورة من أبناء الله أما الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله المؤمنين باسمه، الذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله وُلدوا [11].

وهكذا نجد أن إنجيل الأعمى هو في الحقيقة شرح عملي لفاعلية المعمودية حينما يساندها الإيمان مَن آمن واعتمد خلص [12] لأن الانتقال من الظلمة إلى النور هو الصفة السائدة لمفهوم عمل المعمودية:

منقذًا إياك من الشعب والأمم الذين «أرسلك» إليهم لتفتح عيونهم كي يرجعوا من الظلمات إلى النور ومن سلطان إلى الله

(أعمال الرسل ٢٦ : ١٧)‏

لأنكم كنتم قبلًا ظلمة وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور

(أفسس ٥ : ٨)

لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب

(ى ٢ : ٩)

هذه الآيات كلها تخص فعل المعمودية المباشر وصفة المُعمَدين.

والقديس يوحنا ذهبي الفم يُعلق على طرده من الهيكل هكذا:

أخرَجوه خارج الهيكل، فقبِله ربّ الهيكل.

(، على إنجيل يوحنا، العظة ٩)

وهكذا يعطينا الأعمى مثلًا رائعًا لإنسان فاقد البصر والبصيرة، استطاع أن يعبر بواسطة الإيمان بالمسيح من الظلمة إلى النور، ومن الجهل والعمى الروحي إلى الإيمان والثقة والعبادة والسجود لله الحي، ومن العوز إلى الملء.

وهكذا يُعطي الإنجيل إشارة إلى أن كل مرض وكل عمى وكل نقص في الخلقة يمكن بالإيمان أن يتحول إلى حياة أبدية وإلى تمجيد الله.

هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله، وليتمجد ابن الله به.

(يوحنا ١١ : ٤)

لا هذا أخطأ ولا أبواه، ولكن لتظهر أعمال الله فيه.

(يوحنا ٩ : ٣)

 

أنا هو نور العالم بقلم الأب متى المسكين، نُشر أوّل ما نُشر في ، عدد فبراير ١٩٨٠، الصفحات من ١ إلى ٤ .
هوامش ومصادر:
  1. يوحنا ۳ : ٥ [🡁]
  2. يوحنا ۱ : ٥ [🡁]
  3. يوحنا ۹ : ٧ [🡁]
  4. كورنثوس الأولى ١٠ : ٤ [🡁]
  5. يوحنا ١ : ٤ [🡁]
  6. على إنجيل يوحنا، العظة ٩. [🡁]
  7. يوحنا ٤ : ١٤ [🡁]
  8. بطرس الأولى ٢ : ٩ [🡁]
  9. يوحنا ٩ : ١١-١٢ [🡁]
  10. يوحنا ٤ : ٢٣ [🡁]
  11. يوحنا ١ : ١٣ [🡁]
  12. مرقس ١٦ : ١٦ [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

متى المسكين
Website  [ + مقالات ]

اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله