عندما سُئل الموسيقار الكبير الراحل محمد عبد الوهاب فيمن يفضل أن يجالس، قال أنه يفضل أن يجلس مع نفسه، أي أنه يشعر بالراحة والسعادة عندما يختلي إلى نفسه.
والواقع أن هذا الاتجاه يجسد رؤية عميقة للعديد من الفلاسفة كالفيلسوف اليوناني الشهير “إبيقور” الذي رأى أن السعادة الحقيقية تكمن بداخلنا، فبداخلنا يتقرر نمط تفكيرنا، وإرادتنا، فما يقع من أحداث خارج ذاتنا فهو عرضي، وتأثيره مؤقت، أما عن رد فعلنا لهذا العرض فهو يختلف من شخص إلى آخر حسب ما ينتج من تفاعل لما يكمن بداخلنا مع هذا العرض، فكل فرد هو نتاج مباشر لمداركه، لذا فإنه يصح إلى حد بعيد تلك العبارة التي تقول إن الإنسان حبيس أفكاره، فالعالم الخاص بكل واحد منا محكوم بطريقة إدراكه للأشياء، فلكل منا نظرة للحياة تختلف حسب إدراكنا للعوامل الخارجية التي تعتمد على طريقة تفكيرنا.
إذًا فمن داخلنا نحدد أولويتنا في هذه الحياة، فإذا كان الكثير يعتقد أن أولوياته الأولى تحقيق الثروة، فليمحص النظر قليلًا، فالثروة التي قد يرى البعض أنهم ينعمون بها، لم تكن سببًا لسعادتهم. فكم من شخص هادئ مثقف متأني صافي الذهن يمتلك ما يعينه على حياة أكثر سعادة، لأنه يمتلك أكثر مما يمتلكه أي شخص آخر، فهو يمتلك راحة البال في أفكاره وخواطره عندما يختلي إلى نفسه.
وكم من ثري فريسة للملل والضجر، ولو شارك في كل مظاهر اللهو والصخب، فأكثر الناس سعادة من يملك طبعًا معتدلًا، فتقلبات الحظ والصدف لا تشغل من طابت سريرته، فهو وإن كان يؤثر ويتأثر بالمحيط الخارجي له، ولكنه لا يتأثر بالمظاهر الخارجية إلى الحد الذي يؤثر في كينونته. وإذا كان في الحياة صعوبات وعقبات وحواجز تواجه الإنسان، فهناك دائمًا من يستطيع أن يوجهها ويتغلب عليها مستعينًا في ذلك بقوته الداخلية وإرادته، فينبغي أن نسخر قوتنا الداخلية لما فيه نفعنا وتحقيق التطلعات التي تناسبنا، فالكثير يشقى حينما يتطلع لتحقيق تطلعات لا تناسبه، كمن لا تقوى قوته البدنية على حمل أثقالًا تفوق قدرته البدنية.
إذًا فاللاهث وراء الثراء المضحي بقيمه الداخلية لن يفوز بالسعادة إلا بالنزر اليسير، لأن من ضحى بكل غالي وثمين من أجل الوصول للثروة لم ينتشلهم المال من الشقاء، فإذا كان الثراء يُمكن المرء من إشباع حاجياته الشخصية، فإن تأثيره على راحة البال لا يُذكر، فجامع الثروة على الدوام مشغول بمراكمة الثروات وتكديسها، وهو عاجز عن تذوق المتع الرفيعة، إذ تمضي حياته في الركض وراء المتع الحسية العابرة، إلا من رحم ربي.
إذًا، فالسعادة تتشكل لدي الإنسان كما يقول “شوبنهاور” بما في الإنسان وليس بما عنده، فالثراء الحقيقي هو الثراء الداخلي الذي يعين الفرد على الصبر في مواجهة الصعوبات، لذا، يجب أن نقتنص لحظات مع ذاتنا.
عندما نجلس مع أنفسنا، فإن الحياة تتوقف لتبوح بحكمتها(دكتور مصطفى محمود)
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟