تطل علينا بين الحين والآخر قضية الانتحار والصلاة على المنتحرين. عاوز أعيد نفس السؤال, ليه الكنيسة القبطية بتقول إنه لا يجوز الصلاة علي المنتحرين؟
وقبل ما تجاوب أو تفكر في السؤال، اقرأ الكام قصة (التخيلية) القصيرة دي الأول وفكر فيها وبعدين جاوب على السؤال:
- تاجر مخدرات (في السر) ضيع أرواح شباب بالمئات بس كان بيتبرع للكنيسة عشان يحلل فلوسه، ولما مات اتعمل له اجدعها جنازة وصلي في جنازته اسقف وعشر كهنة وقعدوا يعددوا في أفضاله ومحاسنه وخيره وبنوا له كنيسة وقبر تحت مذبحها!
- مؤمن (ظاهرياً) لكنه خلبوص وفلاتي ومقضيها خيانة لزوجته واختلاس في عمله وحسد وغيره ومؤامرات لأصدقائه، مات واتعمل له جنازة محترمة حضرها اجتماع الخدمة كله وقعدوا يتكلموا عن إيمانه العامل واتضاعه وأصدروا كتب لتخليد ذكري هذا الخادم الأمين.
- شباب منحلين مغتصبين ومتحرشين مستبيحين لكل أنواع الشرور، من عائلات غنية كانوا بيتعاطوا المخدرات وسكرانين عملوا حادث مروري، وماتوا، واتعمل لهم جنازة ضخمة وتسارع الكهنة والأساقفة علي أسرهم لتعزيتهم في المصاب الأليم!
- واحد شخصيته زبالة متعالي ومتكبر علي خلق الله، حاسس انه إله ماشي علي الأرض، غضوب وقذر ومنافق، بيضرب مراته وعياله، بيحضر الكنيسة كام يوم في السنة، لا كان بيصوم ولا بيتناول ولا بيحضر قداسات ولا اجتماعات، ولما مات اتعمل له جنازة عادية واتصلى عليه زي أي حد.
- رجل سياسة مسيحي فاسد وديكتاتور، كان بيقمع المنافسين وينكل بهم ويعذب ويقتل أي معارض، ملأ الأرض كلها فساد وحكمهم بالحديد والنار، ولما مات اتعملت له اكبر جنازة ممكن تشوفها في الكنيسة، حضرها اكبر الرؤساء وأتكلم في حفل تأبينه أساقفة وكهنة كبار!
- شخص في حاله محدش يعرف عنه حاجة سوى إنه مسيحي، مبيحضرش الكنيسة غير كل فين وفين، لا حد يعرف بيعمل خير ولا شر في دنيته، مفيش أخبار عنه سوى إنه مسيحي في البطاقة وعلي ايده صليب، ولما مات بعتوا لقسيس الكنيسة يصلي عليه لأنه مسيحي وتمت الصلاة والترحيم والدفنة!
- واحد مكتئب أو مريض نفسي، تعبان في حياته اللي كلها آلام، شخص ملقاش احتواء أو حب، حاسس إن حياته ملهاش أي قيمة، وصل لحالات اليأس المرضي، إنسان مش لاقي حلول لمشاكله الكتيرة، الدنيا كانت سودا تمامًا قدامه، وهانت نفسه عليه، في أعماقه كان الموت هو حل للمشكلة مش هروب من الواقع، فانتحر!!
رفض الكاهن الصلاة، وقال لا صلاة تجوز علي المنتحرين، ولا ترحيم يجوز عليهم، ولما أهله بعتوا لأسقف المدينة يترجوه، قال: لا تجوز الصلاة علي المنتحر، لأنه قاتل نفسه ومات في خطيته، وإحنا ككنيسة متأكدين إنّه لم يتوب عنها، إذن هو إبن للهلاك فليذهب إلي مصيره الأبدي المحتوم!
أنا عندي أسئلة مشروعة ونفسي حد يجاوب عليها بعقلانية وإنسانية:
- في شرع مين تدخل السلطة الدينية في أعماق الإنسان وتحدد مين اللي يستحق الصلاة عليه لأنه تايب أو خاطئ؟!! ومين اللي بيحدد انه مستحق للرحمة أو لأ؟ هل الأسقف أو الكاهن يحدد مين المستحق للصلاة ومين اللي تجوز عليه الرحمة؟ هل بيتم من خلال معرفتهم ببعض عن طريق سر الاعتراف؟ وافرض إن الاعتراف كان تمثيل وتقضية واجب وفرض؟ هل الاعتراف هو المقياس؟
- في الكنيسة بنصلي “ليس أحد بلا خطية ولو حياته علي الأرض يومًا واحدًا” طب معنى كده إنّ مفيش إنسان بلا خطية مهما عمل خيرات! إذن ليه مش بيصلوا على المنتحرين؟
- إشمعنى المنتحر بالذات اللي بترفض الكنيسة وتقول لا تجوز الصلاة عليه؟ وتنتهر أهله وعيلته؟ هل لأنه في نظرها هالك لا محالة؟ طب بالنسبة لكل الأمثلة السيئة اللي ذكرتها كلها دي واللي عاشوا حياتهم في عربدة وفساد وماتوا واهلكوا غيرهم؟! هل المعاملة معاهم في الصلاة والترحيم هي نفسها مع المنتحر؟ بالطبع لأ.
- نفسي أعرف مين دخل إلي أعماق الله وعرف يشوف (أخر) ومنتهى لرحمته الواسعة التي لا تفنى؟! لو حد يعرف يقول لنا!!
طب سيبك من اللي فات كله.. هل ده عمل إحسان ورحمة من الكنيسة بأنها ترفض الصلاة، اللي هي عبارة عن طلبة بالرحمة والمغفرة من الله لأجل إنسان المتوفي؟! وإيه اللي هيضر الكنيسة لما تصلي علي واحد حتى ولو كان (خاطئ أو هالك) أو اعتي المجرمين؟ وهل ده أمر كتابي أو إنجيلي إننا نتحيز أو نصنف الناس حسب أعمالهم، خطاه ومؤمنين، أبرار أو أشرار، هل ندينهم رغم عدم علمنا بدواخلهم ونسبب إحراج شديد للأهل أو العيلة بعدم الصلاة، إحراج اقوي من الموتة نفسها!!
إن المراسم الدينية يجب أن تقام للكل سواسية، مهما كانت حالتهم وحياتهم. فهذا حق طبيعي للإنسان مثل الهواء والماء، وهذه أقل معاملة إنسانية يحظي بها أي بني آدم، وتجوز له.
من الحاجات الجيدة في الكنيسة الكاثوليكية هو عمل الرحمة والإحسان. بتصلي للمنتحر والمجرم واللي مش من طايقتها، ولو فيه ملحد توفي وأهله طلبوا الصلاة عليه هيصلوا برضه عليه ومن أجله!! ببساطة شديدة لأنها واثقة من مراحم الله الواسعة البعيدة عن الفهم والاستقصاء، وبتتعامل مع البشر علي هذا الأساس وكأنها بتظهر رسالة المحبة وإعلان مراحم الله للبشر. أنت فاكر إنها بتبيح للناس تنتحر وتموت ويتصلى عليها عادي؟ لكنهم في الحقيقية هم بيطبقوا الآية أريد رحمة لا ذبيحة حرفيًا.
الصلاة مجرد طلبة بسيطة من الله أن يغفر ويرحم المنتقل (أيًّا كان، وأيًّا كانت طريقة موته) ولكنها في الأكثر تعزية ومساندة روحية وقلبية لأسرة انكسر قلبها وأدمي الحزن فؤادها! مش كنيسة قاعدة كالجلاد ماسكة سلطة وسوط، تحكم علي ده بالهلاك وتحكم علي ده بالموت، حتى قبل ما يحكم الله نفسه عليه!! تيجي انت تحد رحمة الله اللانهائية وتحصر الإحسان بقوانينك المكلكعة البيروقراطية فتحط حدود لمحبة القدير وتعطي رحمة لمن تشاء وتمنعها عمن تشاء!! يا عالم شوية رحمة.. لا ذبيحة!!
ورغم المكتوب ده كله ورغم قناعة كاتب هذه السطور أن الصلاة علي المنتقلين لن تفيدهم بشيء، إنما ستعطي سلام وتعزية للأهل ومشاركة طيبة من أعضاء الجسد الواحد لبعضهم البعض، وتعضيد لمشاعر الأسرة في محنتها، وإيماني التام بأن المراسم الدينية تجوز أن تقام للكل سواسية، مهما كانت حالتهم وحياتهم. فهذا حق طبيعي للإنسان مثل الهواء والماء وهذه أقل معاملة إنسانية يحظي بها أي بنى آدم وتجوز له.. لكن الكنيسة بتقول ما يجوزشي!!
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟