في مشهد لا يخلو من السخرية، أقف متعجبًا أمام من يدعون الحديث عن الحياد طوال الوقت، وكأنهم يتهيؤون لتأليف الكتب التاريخية المزورة!
أنت مثلًا لا ترى المنتخب المصري فاز أبدًا بمباراة بضربة جزاء ظالمة، حتى الآن! ولن ترى، لأن جميع ضربات الجزاء التي حسبت للمنتخب المصري عادلة تمامًا، ولعلها “جزء من سحر كرة القدم” وغالبًا الأسود منه!
ومع ذلك يصمت الجميع عن الموضوع وهم سعداء… فأين ذهب الحياد المزعوم هنا مثلًا؟! فليذهب الحياد للجحيم إذن، إن كان مقابلة الخسارة في الرياضة!
نقطة!
هذا هو رد الناس ولو تظاهروا بالحياد، ومثل الرياضة، في السياسة أو الدين أو حتى الجنس!
يبدو أنك وأمثالكم يا معشر المحايدين قد أصبحتم مقتنعين بأن الكذب تحت غطاء الحياد -وليته حياد حقيقي- أصبح ضروريًا للبقاء على قيد الحياة، مع أنّه -أي الكذب- ضروري أيضًا مثله لدخول جهنم! الأكثر من ذلك، أنكم أكثر اهتمامًا بأن يطلق الناس عليكم لقب “المؤمنين” حتى لو زورًا، بدلًا من أن تكونوا مؤمنين حقيقيين، وتتحملون “ضريبة” أن يجهل الناس بوجودكم، بما أن الجمع بين “الميزتين” صعب في هذا الزمان!
نحن نفتقد الشجاعة أو الأمانة لمواجهة الحقائق وقبلها مواجهة أنفسنا، ونفضل أن نعيش ونكذب أو ربما نكذب لنعيش، ونستمر في إخفاء أكاذيبنا تلك حتى عن أنفسنا، حتى نصدق أكاذيبنا، مع أن أول خطوة لخلق “مصر جديدة” هي الاعتراف بالحقيقة والصدق ومواجهة كذبنا هذا الذي نفضله عن الحقيقة، ولو كان ثمنها خسارة مباراة كرة قدم!
بالطبع، فنحن دائمًا الأفضل خلقًا من بقية الناس، لا لشيء إلا لأننا أسماء وعلى ورق وبطاقات الحكومة المصرية “مؤمنين”، أفضل حتى من أولئك الذين يعملون بجد ويصبحون أشخاصًا أفضل وأكثر نظافةً ونقاءً ورقيًا من الناحية الإنسانية “الحقيقية”، مع أنهم قد لا يكونون “نظريًا” متدينين بحق أو بقوة وفقا للشعائر أو الطقوس مثلنا، بل وربما غير متدينين على الإطلاق!
ولكن لا… لا يهم… إننا بكل “حيادية” الأفضل خلقا وسلوكًا -وخلاص! هو كده- وهذا هو الواقع ونحن من نقرر! وفي هذا الواقع الزائف “المحايد” والخالي من المواربة، نصدق وهم الأفضلية مثلما صدقنا وهم الحياد، لكن لا يوجد حياد في أي إعلام، أو تاريخ، أو حتى دراسة مقارنة! الحياد نسبي للغاية، وقد يجعلك تكره نفسك عندما تدرك مدى الفضل الذي تعيش فيه وتصنعه من حولك!
والعيب فينا وعلينا- نحن المتدينين بقوة- هو افتقادنا للأمانة مع أنفسنا، وارتياحنا للكذب والانحياز، والضيق من الصراحة الذاتية، والهوس بتقييم الآخرين وإدانتهم في حياتنا الشخصية، خصوصا إذا كان هذا الآخر ثريًا، ويقاس عليك بمدى مشترياتك وهباتك ومجاملاتك المادية لهم، دون غيرهم، بينما تتظاهر أنت ومن مثلك بالكثير من الأعذار لتفادي مسؤولياتك وواجباتك -وعلى رأسها طبعا تلك التي تجاه زوجتك وأمك وقبلهم أولادك- بأنواع مختلفة من الأكاذيب والأعذار الهشة لتخفيف ضغط الضمير والشعور بالارتياح المؤقت، ويبدو أن ضميرك في الحقيقة قد أصبح ميتًا تمامًا يا صاحب الإيمان!
يا له من لغز لا يُفهم! كيف استطاع الآخرون- غير العرب ولا المصريين- أن يتقدموا ويستنير وينشر ويتطور، بينما نحن مرتبطون بالأسفل ونتخبط في الظلام؟
إذا تجاهلت ما تسميه “رَفَاهيَة” الحرية والتنوير والمنهج العلمي، وإن صرفت نظر عما تسميه “طنطنة” الشفافية والنزاهة والمواطنة، فلن تستطيع أبدًا “يا عزيزي المواطن يا عزيزي الفقير” أن تأخذ منها سوى ما يناسبك فقط وتترك الباقي في “الأوبن بوفيه”، لن تستطيع البحث عن السعادة أينما وجدت دون دفع أي ضريبة! ولن تكون خالصة بلا شوائب، يجب عليك أن تتفق وتتوائم وتتماهى مع فكرة “الباكيج” أو “العبوة” في الحياة، وهي تعطيك ما ينفعك ويصلح لك ويفيدك حتى لو كلفتك أن تتخلص طوعًا وطواعية من “عاداتنا وتقاليدنا و… و…”.
وليس طويلا فحسب… لا…
لكن طول عمرك!
لا يمكنك أبدا أن تعيش في مجتمع يوتوبي، لأننا لن نستطيع أبدا أن نأخذ من “الغرب الكافر” شيئا ينفعنا فقط والآخر لا، وإن كان الحل هو الديموقراطية، فلا ديموقراطية بلا عَلمانية، وفي غياب الحرية، فلا ديموقراطية ولا عَلمانية ولا هم يحزنون!
وأرجوك التوقف عن الحديث المكرر عن الحياد المطلق في أي إعلام، لأنه لا يوجد شيء كهذا! فنحن لسنا من النوع الذي يحتاج إلى كل هذه الأشياء، نحن لسنا “بتوع” الحاجات الجديدة، بل نحن “بتوع” الهروب من بوكس البلدية والفوضى والهمجية، ونقضي معظم وقتنا نلوك تلك العبارات الجوفاء عن “عاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا” وبعدها نحط لساننا في فمنَا، ونصعر “أقفيتنا” للصفع والركل والدهس والسحل، و”نجيب وراء المخلوع معزولًا أسوأ منه! والحدق يفهم… تاني!
إذا كنا فعلًا نريد أن نصبح دولة مزدهرة وعادلة مثلهم، فعلينا التوقف عن التمترس خلف عاداتنا المتجذرة وتقاليدنا الفاسدة، التي أصبحنا نعيش عليها ونعيش بها وكأنها حيلة يستخدمها من لا حيلة له، حتى عندما يذكرنا الزمان بفشلنا وخيبتنا، خاصة عندما نقارن ونحلل سبب هزائمنا ونكباتنا، وعلينا أيضا التوقف عن الانغماس في وهم المعارك الكُرَوِيّة الإفريقية الجوفاء، وذلك بصبر عجيب لا يتوفر لدينا مثله أبدًا للعمل ولا للإنتاج ولا للإبداع بل ولا حتى للحب!
ما أعجب أولياء الله الصالحين من المصريين في هذا الزمان!
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية…
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟