نحن نعيش فرحين بآسرنا بعشرات الأقوال المأثورة والأمثال الاصطناعية والنكت السمجة التي شكلت ثقافتنا ووجداننا، وغالبًا ما نتبعها ونحن كارهون! لكننا فرحين بهذا الآسر  والسلام، كما لأي عبد أصيل! عبد ينفذ بإخلاص ومجانًا ودون أن يفهم!

نحن مثلًا نتشدق بإيماننا الديني، ونحن أنفسنا أكثر شعوب الأرض حبا في الجنس والغيبة والنميمة ومسك السيرة!

لدينا أغانٍ تراثية ليس لها أي معنى مفهوم، وفوق ذلك معظم معانيها فانتازية غارقة في أسياخ من الاستعارات والكنايات المستترة والظاهرة والطائرة، أطنان يا معلم من المحسنات البلاغية والبديعية والصلصلة باللحمة المفرومة لا تصل بك إلى أي مكان أو زمان!

تراثيات أقرب لمفهوم “الكشـري” من مفهوم “اللوحة الجميلة!” ورغم ذلك، نحفظها ونستخدمها في التدليل على معانٍ أخرى ليست فيها، لا لشيء إلا من أجل أن نكسب من أمامنا في الكلام بالكذب -ويمكن بالعبط!

وتلاحظ هنا حضرتك أن المكون الأساسي في طبق الكشـري الاجتماعي المصـري هذا هو “الروحانيات!” (بالحري الحديث عن جهل فيها) ويليه “الجنس” وثالثهما طبعًا  “المِزَاج!” كيف؟  ما تعرفش!

مثلا هناك أشياء كثيرة نعيش سعداء بها، بالرغم من أنها أشياء تكسف وساعات أخرى نهرب منها، في حين أنها أشياء تشـرف، أيضًا دون أن نعلم السبب، إلا إننا مصريين نفعل أشياء كثيرة بمنطق الفهلوة الصعيدي الذي نسخر منه، بالرغم من أنه بداخل أغلبيتنا أتخن صعيدي في العالم! ودائمًا ما نرجعها إلى فلسفة الجملة الغنائية الأشهر فى بلدنا، إنك “أكيد أكيد في مصر!” حتى بعد الثورة! كل شيءٍ عجيبٍ يجرى عندنا بلا منطق، ولكنه أصبح شديد المنطقية من فرط تكرار حدوثه، أضحى بديهية عادية من بديهيات الحياة المصـرية!

عزيزى المصرى.. ماتحاولش كتير تترجمنا.. اندمج معانا وعش الجنون “وانجز!”

كل ما فات بأعلى هو مكونات خلاط عملاق هو خلاط الثقافة الشعبية، وهو المحرك لتصـرفات وردود فعل ونكات تكرس لأشياء كثيرة سلبية وكسولة وكمان انهزامية منذ ستة أجيال مضت، مثلًا ثقافتنا تعتبر الحب مشي بطال! تروج لمبدأ الأخلاق والتدين كنبراس ومنارة لحياتنا دون أن تربط وتوضح أن ذلك ليس دافعه أبدا “الإفلاس” المادي أو حتى العاطفي، معظمنا ربما لا يؤمن بتلك حقيقة في داخله، بالرغم من أن الأخلاق والتدين حقًا مبدأ سامي ومحترم ولا علاقة له بأن حبيبتك واحدة “طلعت حافظة المقرر كويس!”

الجميع يريد أن يخفى حقيقة أن كثير من مبادئنا نعتنقه ليس عن اقتناع، إنما -لا مؤاخذة- عن “قصـر ديل” في الدنيا!

أعلم أنك سترميني بالخرف والتخريف، لكن صدقني أنت تجد كثير من الأقوال السديدة وكثير من الحكم الفلسفية والروحية -وأيضا عميقة جدا – عند اللصوص والسفاحين، وأين؟ في مواقف شديدة المأساوية! تلك المواقف تظهر لك ترجمات جديدة جدا ومذهلة في أيدلوجيتها -إن كان لها إيديولوجية أصلا-إننا لدينا أعظم الفلسفات الدينية والثقافية “بس مستخبية..” فين؟ ماتعرفش!

لا تعرف أبدا ولا تحاول معرفة سبب سحر الثقافة المصرية -حتى لو بدت أحيانا شاذة وضد الدين نفسه! – في الناس عمومًا، تحسها صنمًا مقدسًا، بالرغم من أنها كثيرًا ما تجدها منقوصة ومغلوطة وغير مفسرة بل وأيضًا مقروءة ومسموعة خطأ ومفهومة سطحيًا جدا وكوميدية جدا، وفوق هذا  تترجم تَرْجَمَة دنيوية مريضة نفسيًا، تدخل صاحبها أكبر السجون، وتدخل في نفس الوقت أكبر السعادة الجمة على قلب إبليس!

أنا مثلا لي صديق يختلط في ذهنه الحابل بالنابل والبوم بالبلابل، هو ليبرالي بمرجعية إسلامية (بالرغم من أنه لا يوجد بأي مرجعية) ويرى نفسه أيضًا اشتراكي وله تأملات سلفية على حفنة من التطرف و للسخرية هو يحب جدا مصادقة العلمانيين والليبراليين! لعلك تعرف شخصًا يشبهه أو سمعت به! إياك أبدا أن تتعجب من وجود مثله في حياتك، لأنه هو ابن أصيل لبيئة الكشري والعجين والفتة.. الثقافية! يا سلام!

ربما مرجعية ذلك حفنة من الجنون الذي أورثه العصر للكثير من الأسوياء! الثقافة الشعبية التي تخترق أذنك قسرًا وغصبا من “ميكروفونات” هنا وهناك كل يوم. كل يوم، كل هذا  له محرك قوي جدًا ويصنع بعقلك الكثير. ألا وهو محرك الكشري!

من العبث كسر “تابو” السياسة والجنس والدين فجأة. طبعا أول تابوان ينهال عليهم الانترنت والدش والسينما الأمريكية سحقًا ودهسًا و”فعصًا” إلا أن التابو الثالث “الدين” ما زال يتماسك بالرغم من أن الأنترنت بمواقعه ومدوناته تصب وابلًا من السفالة والانحطاط على رموز دينية وروحية، بل ونبوية بلا أي خوف! المشكلة أن المجتمع أصبح لا يهتز! إلا لو كان الفاعل من معسكر معين!

أعجب ما في كل المواضيع، إننا نتشدق بالحرية وهي ليست عندنا فعلًا!

أوعى تفتكر إنك حر أن تفعل ما تريد، حتى لو حاجة تخصك أنت وحدك (خصوصًا لو حاجة بينك وربنا) إلا الدين،  لا يوجد حرية عاقلة هنا.. مغالاة ماشي! تطرف قشطة! هوس برافو! إنما “تجديد فكر”..أوعى.. أوعى.. أوعى!

عزيزي القارئ، عندما تجد نفسك محاصرًا أمام مصدر المصري الذي بداخلك في مواقف حياتك اليومية، ألا و هو دلو الكشرى الحي في كلام و تصرفات من أمامك.. لا تكلف نفسك عناء ترجمته. فقط تعامل معاه! وخلص نفسك إن استطعت!

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية!

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

محرك الكشري! 1
[ + مقالات ]