Search
Close this search box.
حوار الطرشانحوار الطُرشّان: تعبير كثيرًا ما يقال في وصف حوارٍ لا نفع فيه ولا فائدة، ومعنى التعبير أن طرفيّ الحوار يتكلمان ولا يستمعان (طرش)، وبالطبع بدون استماع للآخر فلا يمكن أن يقوم حوار مطلقًا، ولا يصح تسمية ذلك الهراء حوارًا.

وهنا أيضًا في عالم الإنترنت، حيث لا أصوات، وإنما كلمات مكتوبة عبر “كومنتات” و”بوستات” و”توبيكات” في “جروبات”، كثيرًا ما نجد ما يقابل هذا النوع من “الطرش الفكري”، وأقترح تسميته: “قراءة العميان” على نفس الوزن، وهي أن تكتب في أمر ما، فتجد من يظن نفسه يتفاعل معك ومع أطروحاتك، وهو في حقيقة الأمر لم ير من مقالك إلا سطرًا أو عنوانًا، وجعل من نفسه المفسّر الأوحد لتأويل ضميرك، ثم اعتمد على خياله لينسج قصة خلّقها عقله الخصب عبر تحليلات لا منطقية متسلسلة، فلا ترى حوارًا بعد، بل حكمًا تم عليك غيابيًا في محكمة لم تحضرها ولم تر وجه قاضيها، ولا بأس بأن تنتهي بتصنيفك ضمن التيار (س) الذي يهدف لكيت وكيت وهدم زعيط وضرب نطاط الحيط،

العلمانيون المنافقونوالهدف الخفي من هذا التصنيف هو إخراجك من القبيلة (ص) التي ينتمي هو إليها، ويتولى الدفاع عنها من غزو التيار (س) الذي تم تصنيفك فيه، وعلى هذا، فهو يتعامل معك معاملة “أبو العريف” أو النابغة العبقري، الذي “فقسك” وعرف مقاصدك الخفية المستترة في صدرك -والذي قام بشقه- ليضعك في أطار الأعداء والخصوم.

تخبرنا نظريات “علم الاجتماع” بأن هذا العداء الثقافي لا ينشأ فقط نتيجة الجهل وعدم الفهم والإدراك الصحيح لمقاصدك، بل ينتج أيضًا في أقسى صوره نتيجة ثقافة جمودية رافضة لما تكسّره من مسلماته التي ورثها. فأنا لا أتحدث هنا عن مرضى نفسيين، ولكن عن أصحاء يقومون بأفعال مبررة تمامًا لديهم، وتبدو لهم منطقية ولها تأسيس لديهم.

إن التعصب للرأي، والأفكار النمطية السلبية تجاه الآخر، ليست فقط نتيجة التعلّم الاجتماعي الخاطئ، ولكنه ينتج في أخطر صوره من عملية التفكير الطبيعية للأسوياء نتيجة مرجعيتهم المعرفية الخاصة والمغايرة لقيم التعايش الحضاري.

Dogmaهنا يبرز أكاديميًا مصطلح “دوغما”، ومنها مصطلح Dogmatism “دوغمائية”, وهي لفظة إيطالية تعود لجذر يوناني يعني: “المعتقد الأوحد”، تستعمل لوصف الانغلاق في القناعات بحيث تصبح غير مفتوحة للنقاش [لا تجادل] أو للشك [الشك من نواقض الإيمان]، وأدواتها تمثل الاستبدادية [الأخذ بتأويل أحادي دون قبول غيره]، والمعصومية [لا يأتيه الباطل واستحالة الخطأ]، والدمغية / اللادحضية [الزعم بأن قول معين غير قابل للدحض بتاتًا]، بالإضافة إلى “ثقافة العبيد”، أي الاعتزاز الذاتي بفكرة القبول الخانع والخشوع بغباء من قبل الملتزمين بهذه القناعات لو تم تسليطها عليهم.

لب فكرة “الدوغمائية” أن كل الأفكار من أدناها إلى أسماها، عادة ما تستدعي التجديد والتطوير والانتقاد من قِبل المستنيرين والمنفتحين، وهو الأمر الذي يرفضه الأصوليين ويرونه تغييرًا في الثوابت. ولذلك غالبًا يستخدم المثقفين مصطلح “الدوغمائية” للإشارة إلى عقيدة أو مبدأ لديه مشكلة الزعم بالحقيقة المطلقة، في حين قد يكون هناك أفكار أفضل أو أكثر ذكاء أو أقل أخطاء أو حتى أكثر وقارًا من الفضائح التي يصرّون عليها. كما أن من سمات “الدوغمائية” القطع برأي أو معتقد بغضِّ النظر عن الحقائق أو ما يحصل على أرض الواقع، و هو ما يسمى في اللغة العربية بـ”التعسف”. يستخدم مصطلح “دوغمائية” أيضًا لوصف الرأي الغير مدعوم ببراهين أو أدلة عقلانية وإنما هو مجرد وراثة متجذرة ترسخت في اللاوعي خلال الطفولة وتلقن المسلمات.

تابوه“الدوغمائية”، هي ببساطة أن تتخذ موقفًا عاطفيًا ولا موضوعيًا في الدفاع عن شيئ ما، لأن مجرد الحديث فيه يمس تابوهاتك الفكرية المحظورة لديك، فلا تقدم وقتها على مناقشة الطرح لأن النتيجة محسومة لديك سلفًا، ليس عن قناعة، وإنما لأنه لابد أن تنتهي النتيجة هنا، فليس معقولًا ولا متصورًا فكرة مناقشة التابوه من الأساس فما بالكم بتوقع احتمالية الخطأ؟

في حين يسهل وضع توصيف معقول لشرح “الدوغمائية”، إلا أن وضع توصيف دقيق للـ”موضوعية” هو أمر بالغ الصعوبة والتعقيد!!

“الموضوعيّة”، هي بالأصل نمط تفكير، والتفكير عملية تسبق الحوار، فإما أن تحاول التفكّير بطريقة موضوعية أو لا تحاول ذلك.
أما الحوار نفسه فما هو إلا انعكاس لأفكارك عبر جسرٍ من اللغة. طريقة تكوين أفكارك تلك هي التي قد تكون موضوعية أو لا تكون.

لا يوجد خط فاصل بين الموضوعية وعدمها. الأمر نسبيٌّ بالتأكيد، والعبرة الحقيقية بمدى نجاحك في السير بهذا الطريق الوعر. أثق أنه لا توجد نهاية محددة أو معروفة أو مريحة للموضوعية، لكن علينا اتخاذ القرار: إما بالمضي في هذا الاتجاه -أيًا كانت نتائجه- لأنه الأكثر صدقًا في رحلة البحث عن الحقائق، أو الكر لعكسه لتحقيق مآرب ذاتية.

الموضوعية كأساس: هي صدق نيّة التفكير البحثي دون مُسلّمات مسبقة.
هي الانطلاق المتجرد من نقطة الصفر دون عواطف تؤثّر عليّ رغبتي في الانتهاء لصالح نتيجة محددة. الموضوعية هي خوض طريق أنت لا تحدد نتيجته. بل ما وصل من معطيات هو المحرك الوحيد للحصول على أجوبة غير متحيزة للذات.

الموضوعية هي التجرّد من الانحياز المعرفي والاستقلال التام.
الاستقلال من بوتقة الـ”أنا”، وموروثات الـ”أسرة”، وأعراف الـ”مجتمع”، وتوجيهات الـ”إعلام”، ومُسَلّمات الـ”دين”! الاستقلال من كل ما يشكّل للعقل نطاقًا أو جدارًا، ليس بهدف تحطيم كل هذا أو الاستخفاف به، بل بهدف تحرير العقل من كل القيود والعوائق التي تجعله يفكّر في منطقة محددة لا يستطيع تخطيها، إذ ربما تأتي النتائج من خلف الجدار ومما هو بعد الأسوار وخارج الصندوق.

الموضوعية هي أن تصير كمخالفك. أن تنجح في أن ترى بأعينه وتفكّر برأسه وتتقمص أحاسيسه،
الموضوعية هي أن تلتمس له الأعذار أينما وُجِدت.

الموضوعية هي أن تقدّم الطرح وهو حاوٍ لاستفسارات بأكثر مما هو حاوٍ لأجوبة.
الموضوعية أن تبتعد عن قيادة عقل القارئ، ألا تصير أحد وسائل التأثير السلبي على عقول الآخرين.
الموضوعية هي أن تترك عقل الآخر حرًا هو أيضًا.

الموضوعية هي أن تبتعد عن أساليب التهويل من الأمور،
والتهوين من الكوارث،
ونفاق الأصدقاء،
وإبراز الغلّ من الأعداء،
الموضوعية أن تنظر الأمور بأحجامها: دون عواطف.

هذا عن: “موضوعية الطرح”، أما عن: “موضوعية الحوار”، فهي أكثر تعقيدًا وصعوبة!

الموضوعية هنا، هي أن تكون شريفًا في اختلافك، فتتخلص من القبح بداخلك..

ألا أحوّر النقاش لخارجه لأنه يستفزني عاطفيًا، بل أستقبل الـ”آخر” بكل علاته، والقبح الذي بداخله، وأحوّر الاستفزاز العاطفي إلى تفاعل فكري يستنفر الهمم..

الموضوعية هي ألا ترى من الكون أشخاصًا أو مواقفًا.. إنما ترى: “فكرة”..
فكرة تتفاعل معها بغض النظر أن قائلها هو الله ذاته، أم ذاته..
الموضوعية هي أن تستمد الـ”فكرة” قيمتها من ذاتها.. وليس من قيمة صاحبها.

الموضوعية هي ألا تخوض حوارًا بغرض التنفيس والتعبير وإخراج ما بداخلك فقط..
بل أن تحترم وجود الآخر، فتقرأ ما بداخله، وتهضمه جيدًا، قبل أن تتفاعل معه.

الموضوعية ألا تسخّف من قيمة.. وألا تقيّم سخافة..
الموضوعية هي أن تقدّم أسباب رؤيتك للطرح السخيف أو القيم، وتوضح الأسس التي بنيت عليها هذا التقييم، تاركًا القارئ يستشعر معك سخافة أو قيمة الطرح..

الموضوعية تتبنى الأدلة والبراهين والحوار المنطقي والعقلاني.
الموضوعية عدوّة لدودة للنوايا والظنون، والقفز داخل الصدور، وامتلاك الحقيقة المطلقة.

الموضوعية هي التميز بالنظام والترتيب والوضوح والشفافية.
غياب الموضوعية يعنى البعثرة وخلط الأوراق والحديث في عدة مواضيع معًا لا تجمعهم فكرة أو نقطة محددة.

الشخص الموضوعي هو شخصٌ يجبر خصومه على احترامه..
لأنه لا يضعهم بالأصل ضمن دائرة الخصوم..
هو ينظر دائمًا للأمر على أنه اختلاف أفكار حتمي وصحي..

هو لا يتوقف عند مرحلة الغفران للآخرين اختلافاتهم عنه..
بل لا يراهم بالأصل قد ارتكبوا خطأً في هذا الاختلاف..

هو من أدرك أن هدف الحوار لا يركن إلى متحاوريه..
بل يرقد دائمًا تحت أحكام مشاهديه..

هو لا يرى في خصم الحوار إلا: سلمًا..
سلّماً يصعد درجاته بثبات، ليهمس بكل هدوء قائلًا: أنا لست أنت!

الشخص الموضوعي هو شخصٌ لا تنجح في تحديد تيّاره أو قولبته في إطار محدد..
هو شخصٌ متجدد لا يتحرك ضمن قوالب نمطية أو تيارات مستهلكة..

لا تملك إيقاف همسته الهادئة التي تحولت داخل عقلك لـ”صرخة”..
صرخة تهزه.. تنهره.. تقلّب كل كيانه، وتحطم في أصنامه..

في كل مرّة تقرأ له، لا تعرف النهاية من بداية العنوان..

في كل مرّة، تجد معه شيئًا جديدًا..

شيئًا لا تملك رده، ولا منعه من التسلل لداخلك..

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]