عندما تقع الكوارث يتضامن الإنسان الطبيعي مع أشقائه من البشر الذين يتعرضون لمأساة، وفي وسط الأحداث يتناسى الناس عداوتهم لبعض الوقت وتبدأ الدول في إرسال مساعدات لمواجهة الكوارث الطبيعية، ففي النصف الأول من سبتمبر الجاري حلت بدولتين من شمال إفريقيا كوراث طبيعية، الأولى كانت زلزال ضرب المغرب وتسبب في وفيات وإصابات كثيرة، وبعدها بأيام استقبلت ليبيَا إعصار دانيال الذي تسبب أيضًا في وفيات كثيرة، وبدأت شعوب دول العالم المختلفة في التضامن مع شعبي المغرب وليبيَا لما يمروّن به من كوارث، ومن بينهم الشعب المصري، لكن لفت الانتباه منشور تداوله عدد من المواطنين المصريين المسيحيين عن إعصار ليبيَا، وعلاقة ذلك بالـ21 مصري مسيحي الذين قتلوا في ليبيَا علي يد تنظيم داعش وعودة ظهور فيديو مقتلهم في 15 فبراير 2015.

مأساة المأساة 1

توقفت كثيرًا أمام هذا المنشور الذي يتداوله بعض المسيحيين على الرسائل الشخصية، حيث يشير إلى مدينة درنة التي ضربها الإعصار وابتلعتها الفيضانات مع الإشارة لكونها نفس المدينة التي “استشهد” فيها “الأقباط” في ليبيَا، باعتبار أن ما حدث هو نوع من العقاب الإلهي لهذه المدينة التي شهدت مقتل المصريين الأبرياء على يد تنظيم داعش الإرهابي.

منشور رديء عن الانتقام الإلهي، يتفق تمامًا مع حال التعليم اللاهوتي المتردي الذي ضرب العريقة في أخر 60 سنة، فهذه العبارات المكتوبة على صورة “أحد الشهداء” بعيدة كل البعد عن المسيح وتعاليمه التي تؤمن بها الكنيسة، فالله ليس بمنتقم ولا مجرب بالشرور، بل بالعكس المسيح كان يقدم المحبة والرحمة، كان يتعاطف مع الناس يشاركهم فرحهم ويشاركهم حزنهم أيضًا، مثلما فعل وشارك مريم شقيقة لعازر صديقه الذي توفي، في البكاء.

فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ، خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ ههُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي!»
فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي، وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ، انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ،
وَقَالَ: «أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟» قَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ، تَعَالَ وَانْظُرْ».

بَكَى يَسُوعُ. 

(إنجيل يوحنا 11: 32- 35)

فمن أين جاءت تلك التعاليم التي تروج للشماتة وتظهر الله وكأنه سادي يتلذذ بالانتقام الأرضي على شعوب كاملة لمجرد موطنها بالصدفة في مكان دنّسه آخرين، وفي الوقت ذاته يميز بين البشر الذين أحبهم جميعًا وينتقم لمجموعة من مجموعة ثانية عبر العقاب الجماعي من مجموعة ثالثة؟

على نفس القياس الذي جاء في هذا المنشور، تعصف بذهني مجموعة من الأسئلة: لماذا لم يمنع الله مقتل هؤلاء الأبرياء على يد هذا التنظيم الإرهابي الشرير؟ لماذا تركهم الله يواجهون هذا المصير الصعب؟ ومن بعدهم أسرهم وعائلاتهم الحيّة في حزن لم ينته إلى الآن؟ وإذا كان الله ينتقم كما يتصور من كتب هذا المنشور، فهل ينتقم من المجرمين والإرهابيين القتلة؟ أم من مواطنين أبرياء من دولة ليبيَا بينهم مصريين أيضًا مازالوا يعملون هناك وجميعهم يعانون من غضب الطبيعة بالإعصار، ولم يتسبب أحدهم في ذبح الـ21 شهيدًا بريئًا؟

للأسف لم ينتبه من كتب هذا المنشور “الشامت” إلى أنه ينشر ما يندرج تحت تصنيف “خطاب الكراهيَة”، فيعبر هذا المنشور عن واحدة من سماته وهي نشر خطاب “تمييزي” (متحيز، متعصب، ﻻ يغفر) أو “ازدرائي” (احتقاري، مهين، مذل) لفرد أو مجموعة.

تعرّف الأمم المتحدة خطاب الكراهيَة على أنه:

 أي نوع من التواصل، الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهُوِيَّة، وبعبارة أخرى، على أساس الدين أو الانتماء الإثني أو الجنسية أو العرق أو اللون أو النسب أو أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية. 

 (تعريف الأمم المتحدة لخطاب الكراهيَة)

من متابعتي لشؤون الأقباط بشكّل مكثّف منذ عام 2011، أعتقد أن من كتب مثل هذا المنشور لا يعي ولا يعرف معنى “خطاب الكراهيَة” المرفوض من الأساس، وأنه يشمت في موت أبرياء في كارثة طبيعية مسؤول عنها البشر جميعًا نتيجة نشاطهم الذي أثر على المناخ ونجني تبعاته في السنوات المقبلة بطريقة أكثر ألمًا، ما لم نغير في سلوكياتنا الطبيعية الارتجالية تجاه الآخرين.

وهنا أعود لإشكالية التعليم اللاهوتي المنتشر في كنيسة الإسكندرية منذ سبعينيات القرن الماضي، فمن سماته أنه سماعي سطحي، وللأسف لا توجد كليات ومعاهد لاهوتية معتمدة أكاديميًا، يدخلها من سيتم رسامتهم كهنة ورهبان وأساقفة، بل توجد “كليات إكليريكية” (كهنوتية) غير معتمدة أكاديميًا، تُناقش فيها رسائل الماجستير والدكتوراه من غير الحاصلين على أية درجات علمية أكاديمية ويمنحون بأنفسهم درجات الماجستير والدكتوراه التي لم يحصلوا عليها لغيرهم.

بجانب هذا الوضع، فُتحت المنابر لبعض القساوسة دون غيرهم ليكونوا “نجوم شباك”، وأصبح لهم تأثيرًا كبيرًا على المسيحي في مصر، ومن بينهم القمص ، كاهن كنيسة مار مرقس بحي مصر الجديدة بالقاهرة، الذي روج وقت انتشار إلى أنه عقاب من الله، وكان يلوم من يقول بغير ذلك ويعتبره غير مؤمن إيمانا صحيحًا برب الكوارث الذي يؤمن به، وأعتقد أن من كتب هذا المنشور لازال متأثرًا هو ومن يتداولنه بهذا الخطاب.

للأسف الخطاب الديني لكنيسة الإسكندرية في وقتنا الحاضر، يلغي الإنسان وارداته الحرة ومسؤوليته عن الأحداث من حوله، ويخلق هذا الخطاب حالة من الاستكانة والخضوع لل (الكهنة) وما يقولون، على اعتبار أنهم يتحدثون باسم الله وينقلون كلام الله ويشرحون وجهة نظر الله، فلا يشعر الفرد منا بقيمته كإنسان، ولا كيف يتعامل الإنسان مع الكوارث بالمؤازرة للمنكوبين ﻻ بالشماتة فيهم، فيفسر كل ما يحدث في حياته بطرق غيبية وساذجة ويلقي بمسؤولياته على الله تارَة، وعلى تارّة أخرى. فلا يتبقى له شيئا ليفعله بنفسه أو لنفسه أو لغيره من الأنفس الحيّة!

على الكنيسة أن تنتبه لمثل هذا الخطاب اللاهوتي وكوارثه، وأن تغيّر منه، فتظهر محبة الله بدلا من الخوف من العقاب والانتقام، وليس هذا فحسب، بل عليها أن تنظر إلى شقيقتها في رومَا، التي انتبهت للطبيعة و، وأنه يجب أن يكون للكنيسة كمؤسسة دور في مواجهة التغير المناخي، فقد صدر عن ال وثيقة “كن مسبحًا” وقت توقيع اتفاقية المناخ عام 2015، للتوعية بأهمية البيئة والحفاظ عليها، وهذه الأيام يضيف لها ملحقًا جديدًا، ويتم تناولها من قبل الكنائس الكاثوليكية حول العالم ومؤسساتها التعليمية والأهلية المختلفة.

ففي رأيي الكلام عن البيئة والتغير المناخي ومخاطر ذلك على كوكب الأرض ككل ومستقبل الكائنات عليه، لم يعد “رَفَاهيَة أوربية” كما ننظر، بل أهم بكثير من أي أمور أخرى، ويتفق مع المسيح ونهجه، وهو دور مهم لابد أن تؤديه الكنائس.

خالص العزاء لمن فقدوا ذويهم وأصدقائهم سواء في الزلزال الذي ضرب المغرب، أو بسبب إعصار دانيال الذي ضرب ليبيَا، فهذه الكوارث تجعلنا نقترب أكثر من بعض، ونتضامن ونساند بعضنا البعض ولو بكلمة تعزية بسيطة.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي ومتابع للشأن الكنسي وشئون الأقليات