أحبّ تلك الأوقات التي تفيض بالذكريات، أتقوت بها في الأزمنة الكسولة التي بلا ذكرى. لمثلها ألتقط مئات الصور، واسترجعها كلما وقعت في فخّ الاعتياد.

في أثناء رحلة مدهشة استمرت 6 أيام بالعاصمة الأردنية عمان، تدرّبت فيها على “صِحافة الحوار”، تعرّفت على 35 صحفيًا وصحفيًة، أصحاب خبرات واسعة في المجال الإعلامي، قادمين من 15 دولة عربية، ممن وقع عليهم الاختيار لاجتياز برنامَج زمالة “الصِحافة للحوار”، المقدّمة من العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات ()، بهدف تبني خطاب إعلامي متوازن يرفض الكراهيَة ويجنح نحو السلام. وبعد عودتي إلى مصر، كرّرت على نفسي تساؤلات: “ما الفارق بين هذا التدريب وكل ما حضرته منذ عملي بانتظام في الصِّحافة عام 2010؟ وما الذي دفعني لأخبر صديقتي أنني ما زلت هناك، ولم أعد بعد من أجواء هذه الرحلة؟

فكرة جمع أفراد لا تتشابه لهجاتهم أو أفكارهم وأديانهم أو خلفياتهم الاجتماعية والثقافية -حتى لو من البلد نفسها- في مكان واحد، وإعطائهم الفرصة الكافية للتعارف بعيدًا عن مواعيد الفعاليات، هي السبب الحقيقي لتميّز التدريب.

من اختلاف اللهجات خرجت ضحكات القلب، ظهرنا للمحيطين في الفندق المضيف مثل مختلّين، نقهقه بلا سبب، وحدنا فقط من نفهم أننا نضحك لأننا لا نفهم.

صديقي الليبي لم يكفّ عن قول: “تعبيرات وجهك تضحكني”، لأنه كلما تحدّث بلكنته السريعة ترتسم على ملامحي علامات تشبه التعطل الإلكتروني error، لأطالبه بإعادة جملته قبل أن يغرق في الضحك ونضحك جميعًا.

وأكاد أجزم أنني كنت في حاجة إلى مترجم لغوي لتفسير ما تقوله المتدرّبة التونسية، قبل محاولات فهم ما تقوله في سياق الموقف، كما نصحني المصري بقوله: “حاولي تتعاملي مع نَغْمَة الكلام ولا تنتظري فهم الجُمل، كان غيرك أشطر”.

شاعرية اللهجة العراقية المليئة بعبارات من نوعية: “تكرم عيونك” و”تؤمريني ستي”، وغنجة اللبنانية، وظرافة المصرية وبساطتها، وسرعة التونسية، وغرابة المغربية، وجدية السُّعُودية، من قلب هذا التنوّع اللفظي خرج الحب والأوقات التي لا تُنسى.

كما في اللكنات كذلك أيضًا في الأطعمة؛ تآلفنا بنقاشات طيبة حملت رائحة الصواني العربية المُغطاة بمذاق الفستق والجوز ومختلف المكسرات، أحاديث دارت حول ما نأكله في بلادنا، مع نصائح متبادلة بعدم تفويت أكلات بعينها في السفر لكل بلد عربي.

أكلت المنسف الأُرْدُنّيّ، وتعرّفت على ما يفرقه عن السعودي أو الفلسطيني، أكلت الفول والفلافل الأردنية التي لا تشبه نظيرتها في مصر، واستمتعت بمذاق الكنافة الساخنة بالجبنة كأنني لم أتذوّق حلوى من قبل، ارتدينا البشت الأُرْدُنّيّ في إحدى المطاعم التي توزعه على زائريها لمنحهم الدفء في الأوقات الباردة.

أوقات التجول بالبيس المخصّص لنا، حرصنا ألا تكون عابرة، دارت أغنيات تعبر عن اختلافنا، متنقلين بين أحدث ما انتشر منها في كل دولة؛ ورغم إجماع الكل على فهم الأغنيات المصرية والتفاعل معها كونها الأكثر انتشارًا مقارنة مع الأخرى، إلا أن كل واحد/ة كان يزيد اندماجه/ا أكثر مع أغنية بلده/ا.

غنينا وتمايلنا وضحكنا مجددًا. سلوكيات إنسانية انسابت حتى من أكثر الشخصيات تحفظًا بتلقائية شديدة، كنا على وشك نسيانها في بلادنا بسبب الأزمات المادية الطاحنة التي انطبعت تأثيراتها على كل تحرّكاتنا وانفعالاتنا وتعاملاتنا اليومية، أو بسبب الحروب والصراعات العسكرية والسياسية عند البعض في بلدانهم منذ 2010 حتى الآن.

أخبرتنا هذه الأوقات ما لم تخبره لنا التدريبات الإعلامية ومنصّاتها كافة، أن لدينا ما يسع لجعل الأضداد تتقارب في مساحة ما.

الجنس واللون والدين والأصل الثقافي واللغة والأعراف الاجتماعية، كهوف تحيط بنا جميعًا، الخروج منها مغامرة لا نعرف عواقبها، لكن المؤكد أنها تُبقي بلادنا قابعة في صراعات لا حصر لها إذا ما ركزنا عليها، وهي نفسها مساحة حب وسعادة مشتركة في حال أتيح الحديث عنها في نطاقها الطبيعي، وتركنا للمشترك لعب دوره الأكبر، وقدمنا فرصًا لجيران المنطقة يتبادلون فيها الفن والضحك والأكل وكثير من اللطف.

لا يزال للتدريب بقية، لننفّذ في مراحله المقبلة مشروعات إعلامية تواجه خطابات الكراهيَة، وأيًا ما يكون القادم، سأظل مدينة لهذه المساحة الإنسانية وفرصة استنشاق نفس من القلب، والعودة بذهنية جديدة تتسع للجميع… الجميع دون استثناء، أحباء طالمَا لا ينتهجون العنف أو يتخذون من النعرات الطائفية والقبلية دروع حماية لهم.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

مارسيل نظمي
[ + مقالات ]