تضافرت عوامل عدة على تهميش  الأرثوذكسية لقرون ممتدة، بدأت بالانقطاع المعرفي التاريخي بينها وبين جذورها الآبائية ومن ثم تراثها اللاهوتي المتميز، مرتين، الأولى حين اتخذت قرارًا بهجرة اليونانية (لغة التدوين اللاهوتي) إلى القبطية (العامية المصرية آنذاك) بفعل الصراع المحتدم الذي شهده القرن الخامس مع انعقاد مجمع ، الذي دشن الانشطار الكبير في الكنيسة، والثانية مع قدوم الدولة العباسية (750 ـ 1258) واستتبابها وفرضها اللغة العربية لتحل محل القبطية، ويتعمق الانقطاع المعرفي اللاهوتي ويتهدد بقاء الكنيسة لولا احتفاظ الكنيسة بطقسها المبدع الوعاء الشعبي لإيمانها ولاهوتها، والذي انتقل من جيل إلى جيل حتى وإن تراجع التعليم النظامي بها.

وتداهمنا رياح التنوير مع قدوم الحملة الفرنسية، وأفول الخلافة العثمانية، وبزوغ نجم محمد على وتداعيات بعثاته إلى الغرب، ثم وقوعنا تحت قبضة الاستعمار الإنجليزي، وبين هذا وذاك تعرف الإرساليات الغربية طريقها إلى مصر، وتجد الكنيسة المصرية نفسها في مواجهة متعددة الأطراف والاتجاهات، فينتفض جهاز المناعة داخلها وتسعى لتسترد ما فاتها، وعندما ينتصف القرن التاسع عشر تبدأ إرهاصات الخروج من النفق المظلم، مع قدوم البابا الذي ينتبه إلى قضية التنوير ويشرع في سنوات قليلة (1853 – 1862 م.) في التأسيس ل فيستقدم في جسارة ووعى ثاني أكبر مطبعة بعد المطابع الأميرية ويفتتح سلسلة من المدارس للبنين والبنات ـ سابقا لدعوة لتحرير المرأة (1899) بأكثر من ثلاثين عامًا ـ بل ويؤسس مدرسة للتعليم الصناعي، وتشرع أبوابها لكل المصريين.

ومع إطلاله القرن العشرين تتأسس حركة لتعليم النشء والشباب القبطي، ومنها يتخرج الرعيل الأول من الشباب المسيحي الوطني ويتوزع بين العمل المدني والكنسي، وبعضه يذهب للرهبنة، ومنها إلى قيادة الكنيسة، وبعضه ينخرط في العمل العام الاجتماعي والسياسي.

كان الشاب واحدًا من الشباب الذين جذبتهم تجربة مدارس الأحد في جيلها الثاني، وكان قد تخرج لتوه في كلية الحقوق والتحق بإدارة الشئون القانونية بإحدى الوزارات، إلى جانب ممارسته للعمل الصحفي، ولم يقو على مقاومة نداء التفرغ لخدمة الكنيسة فيقبل الدعوة للكهنوت (1972) ليصبح الأب إبراهيم عبد السيد، راعيًا لكنيسة مار جرجس بحدائق المعادي، ويمزج بين ثقافته القانونية والأدبية فيكتب عشرات من الكتب التعليمية الدينية، يكشف فيها عن ثراء الكنيسة وعبقرية طقسها، وعمق لاهوتها.

تجرى في نهر الكنيسة مياه كثيرة، وتتغير خارطة القيادة الكنسية بعد عديد من الخبرات المؤلمة، خاصة بعد تجربة 5 سبتمبر 1981 الأليمة، والتي شهدت عزل ال من قبل القيادة السياسية، واعتقاله بأحد الأديرة بصحراء وادي النطرون، تحت مسمى مخفف ومراوغ “التحفظ”، ويبقى رهن الاعتقال لما يزيد عن الثلاث سنوات، ليعود إلى موقعه 7 يناير 1985، وقد تركت هذه التجربة في نفسه جروحًا غائرة، يعود ليعيد هيكلة إدارته، فيقصى أعضاء اللجنة الخماسية التي تشكلت لإدارة الكنيسة وتسيير العلاقة بينها وبين الدولة، ويصعد بدلا منهم شخوصًا يعتبرهم أكثر ولاء، حتى مع افتقارهم لشروط مواقعهم، وتبدأ مسيرة تعقب من يبدون تعاطفًا مع أعضاء تلك اللجنة أو مع الأب ، الذي حاول جاهدًا أن يرأب الصدع بين والبابا.

كان الأب إبراهيم عبد السيد واحدًا من المستهدفين، خاصة وأنه كان ينادى بتقنين العلاقات البينية في الكنيسة، وتخليص الكنيسة مما علق بها من تعاليم العصور الوسيطة، وأنسنه رجال الكهنوت، ومقاومة الاستعلاء والغلو في التعامل مع القيادات.

بدأت الحكاية بإطلاق ماكينة الشائعات ثلاثية الأبعاد، والتي تمرست دائرة الحاشية فيها، المالية والأخلاقية والعقائدية، ثم الاستدعاء للمثول أمام من أوكل إليه مهمة محاكمة الكهنة، بدون قواعد محددة ومقننة، مع قائمة ممتدة من الاتهامات، التي تنتهى بإدانة معدة سلفًا، وطلب من المتهم بالتوقيع على اعتراف بارتكابه ما هو منسوب إليه مشفوعًا بطلب العفو، بدأ مشوار القس إبراهيم عبد السيد مع المحاكمة الصورية في يوليو 1992 ولم تنتهى برحيله المفاجئ والملتبس عن عالمنا في 30 أغسطس 1999.

واللافت أنه لم يصدر بحقه حكمًا بالإدانة عن أي من التهم الموجهة إليه، وبقى على رتبته الكهنوتية حتى لحظة الوفاة، واستبدلوا هذا بإطلاق فريق التشويه، (والتي نعيش الآن مع طوره الإلكتروني) لينال من سمعته وأخلاقه وذمته المالية، في حين استمر الأب القس إبراهيم عبد السيد يعلن تحديه لجلاديه أن يخرجوا إلى الناس والرأي العام بما لديهم من أدلة ثبوت، وكتب في كل إصدار ومطبوعة تصدر، فكان كالصداع المزمن في أدمغة الجلادين، وعندما سُئِلوا قالوا ليتقدم لنا بطلب رسمي لفتح ملفاته، لكنهم من رأفة قلوبهم ورقتها لا يريدون كشفه أمام الناس، كم بك يا دنيا من المضحكات المبكيات!!

لم يلتفت الرجل لضجيجهم وفحيحهم فأصدر العديد من الكتب تتناول قضايا تدبيرية وكنسية غاية في الأهمية منها:

الأب إبراهيم عبد السيد <br>أوان رد الإعتبار 1البدع والهرطقات خلال عشرين عاما
طل الوحدة الوطنية سرجيوس
المحاكمات الكنسية
أموال الكنيسة من أين؟ وإلي أين؟
المعارضة من أجل الإصلاح الكنسي
البطريرك القادم ممن يختار؟… ومن الذي يختاره؟.. وكيف..؟
السلطان الكنسي أبوة لا إرهاب
الوحدة الوطنية وحقوق الإنسان
متي يعود الحب المفقود في الكنيسة القبطية؟
الرهبنة في الميزان
أموال الكنيسة من يدفع؟ ومن يقبض؟
الأحوال الشخصية .. رؤية واقعية
الإصلاح الكنسي عبر العصور
الإرهاب الكنسي

يرحل الرجل وإمعانًا في الخصومة واللدد فيها تصدر تعليمات مشددة بعدم الصلاة على جثمانه، ويطارد من كنيسة إلى أخرى، حتى يدبر الله كاهنا شجاعًا وأحد الشمامسة اللصيقين بقداسة البابا الراحل للصلاة عليه بكنيسة المدافن بأرض الجولف بمصر الجديدة.

اليوم وبعد مرور أربع وعشرون عامًا على رحيله، ننتظر قرارًا تصحيحيًا لرد الاعتبار لرجل كان صوتًا صارخًا في البرية وكان صاحب رؤية إصلاحية واضحة، وما زالت أطروحاته صالحة ومنقذة، وإعادة الاعتبار قيمة وفعل يدركهما كل الأمناء في الكنيسة، فما زلنا نذكر القرار الشجاع الذي اتخذه البابا (412 – 444) برفع الحرم عن القديس وإعادة الاعتبار له، بل وأدرجه ضمن قائمة مجمع القديسين بالقداس الإلهي. رغم أن الحرم أوقعه البابا خال ال الأول.

بقى أن اذكر أن الشعار الذي كان يرفعه الأب القس إبراهيم عبد السيد: “وتعرفون الحق والحق يحرركم

أيها المناضل في عصر تشوه فيه النضال،
أذكر الكنيسة أمام عرش النعمة وهى تجاهد للخروج من النفق الذي كنت أحد أبرز من قاوموا البقاء فيه.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨