كالغريق الذي لمح جزيرة وسط عرض البحر، وكالتائه في الصحراء القاحلة الذي لمح واحة خضراء غناء تتدفق المياه من جوانبها، لمحته من بعيد يمشى الهوينا، بلونه الأخضر الباهت الكئيب ورقمه المميز، أوتوبيس 355 المتجه لمصر الجديدة، والذي صار في تلك اللحظة تحديدًا الأمل الوحيد في الهروب من حالة الإغماء التي تقترب بسرعة بفعل الجفاف، بعد الانتظار تحت شمس أغسطس الحارقة الساعة الثالثة ظهرًا في قلب ميدان رمسيس الذي فاق زحامه يوم الحشر العظيم لمدة ثلاث أرباع كاملة. استجمعت ما تبقى لدى من طاقة، وأطلقت لساقاي العنان محاولًا الوصول لنفس سرعة الأوتوبيس، الذي قرر فجأة وبدون أي مقدمات أن ينطلق بسرعة المكوك الفضائي أبولو 13، أخذت نفسًا عميقًا ورددت الشهادتين جهرًا قبل أقفز في وثبة عالية تؤهلني بجدارة للأولمبياد، وعندما فتحت عيناي، كنت بداخل الأوتوبيس بالفعل، فلم أسقط تحت عجلاته والحمد لله.
مندهشاً ومذهولاً من نجاحي الغير متوقع باللحاق بالأوتوبيس المنطلق، لا أصدق أن المعجزات لا زالت تحدث، لكنها حدثت بالفعل ووجدت أحدهم يوشك أن يترك مقعده بجانب الشباك. جلست بسرعة مكانه في حين يخفق قلبي بشدة، ويكاد ينفجر من بين الضلوع، من اللهاث خلف الأوتوبيس، غير مصدق لعثوري على مقعد خال وبجانب الشباك أيضًا. الآن فقط فهمت دعوة أمي التي اعتادت أن تدعو بها كل صباح قائلة “ربنا يوقف لك ولاد الحلال”، فها هو ابن الحلال قد “وقف” وترك كرسيه للعبد لله.
بهدوء أخرجت سماعات الأذن، و أوصلتها بالهاتف الخلوي كي أعزل نفسى تماماً عن الصخب المحيط، و أطلقت لـ “فيروز” العنان كي تشدو بصوتها العذب، وأخرجت كتاباً من حقيبتي كنت قد بدأت فيه منذ حوالى شهر ولم أنتهي منه بعد.
لا أدرى تحديداً لماذا انتبهت عندما توقف الأوتوبيس عند محطة “كوبري القبّة” قبل أن يتحرك مرة أخرى، ثم انتزعتني تلك المرأة الأربعينية من خلوتي، عندما نهضت من مقعدها كي تتحرك صوب الباب قبل اقتراب محطتها التالية، ربما بسبب صورتها النمطية للسيدة المصرية المحجبة، المترهلة القوام، الممتلئة الصدر و المؤخرة، حاملة شنطة الخضار المميزة، حاولت ألا أعيرها انتباهًا و أعود إلى كتابي، لكن شيئًا ما دفعني أن أراقبها حتى تنزل من الأوتوبيس، وبينما كانت تسير في الممر الضيق صوب الباب الأمامي، فجأة امتدت يد كهل عجوز سبعيني يرتدى عوينات ضيقة، يجلس على الكرسي الأقرب للممر، ليصفعها بكل هدوء على مؤخرتها الرجراجة، ثم يعود مرة أخرى إلى قراءة الصحيفة التي يحملها بكل هدوء و كأن شيئًا لم يحدث، انتظرت أن تثور ثائرتها وتنتفض السيدة الأربعينية لكرامتها التي بعثرتها يد السبعيني، وتعود لتصفعه “قلمين” انتقامًا من تحرشه بها، لكن يا للغرابة، للمرة الثانية، مضت المرأة في طريقها و كأن شيئًا لم يحدث.
لم أستطع السيطرة على أعصابي الثائرة، فانتفضت وبكل قوة صائحًا “في إيه يا حاج؟ مش عيب على سنك الكلام ده يا محترم؟؟”، نظر مستعطفًا كالفأر الذي وقع لتوه في المصيدة، وكأنه يترجاني أن “أستر عليه”، لكن الأوان قد فات، ويبدو أن آخرين قد لمحوا فعلته لكن لم تأتيهم الشجاعة لفضحه، وعندما أشعلت أنا الفتيل انتفضوا بقوة ليهجموا عليه بعبارتهم اللاذعة: “عيب عليك”، “يا عم خليت إيه بس للعيال؟”، و سخر أحدهم من شيخوخته قائلًا “الشقاوة فينا بس ربنا هادينا”، في حين أخذ الملتحي الجالس بجانبي يبسمل ويحوقل ويستعيذ بدون توقف، ويتمتم بتكرار كومبيوتر ويندوز إكس بي قد “هنّج” لتوه: “أستغفر الله العظيم.. أستغفر الله العظيم”، إلا أن التالي كان أغرب، فبدلًا من أن تتشجع السيدة الأربعينية وتنتقم لكرامة مؤخرتها المبعثرة، انقلبت علينا نحن المدافعين عنها، ورفعت صوتها بالصياح في وجوهنا قائلة: “مش عيب عليكم انتوا تزعقوا في راجل قد أبوك؟ الراجل رجل هنا ورجل في القبر”
لم تكتفِ بالصياح، لكنها استدارت عائدة حتى صارت في متناول يد السبعيني، وقالت له بمنتهى الأريحية والغنج “طاه إديني واحدة تانية بالعند فيهم”، تردد الرجل للحظة ثم أستجمع شجاعته، وما تبقى من “تستوستيرونه”، وصفعها على مؤخرتها بتردد مرة، ثم تشجع و تبعها بالثانية، والثالثة، وسط ضحكات وتصفيق نفس الشباب الذين كانوا يلومونه على فعلته المشينة منذ ثوان، وانطلقت الصفارات عالية تحييه، مع ضحكات بنات الجامعة العالية تصدح في خلفية المشهد المسرحي العبثي. لم يتحمل جاري الملتحي المشهد، و ترك مقعده و هو يتمم عالياً بتكرار نفس الكومبيوتر الويندوز الإكس بي الذي قد “هنّج” لتوه : “يا ولاد الوسخة .. يا ولاد الوسخة.. يا ولاد الوسخة”، ثم نزل من الباب الخلفي ليلحق بأوتوبيس أخر ، بينما نزلت البدينة الأربعينية من الباب الأمامي، ليعلو الصياح و الصفير أكثر وأكثر، بينما أحدهم يصيح في خلفية المشهد “غور.. شكلك أخواني ابن مرا”
نظرت في عيني السبعيني الخبيث، فوجدته ينظر في عيناي مباشرة نظرة تشفي لا توصف، أمسكت أعصابي وقهرت نفسي قبل أن أغرس قلمي في عيناه الضيقتان، أو أطبق على رقبته الضئيلة بكلتا يداي، عندما تخيلت عناوين صحف الغد و هي تقول “مهندس يتجرد من الرحمة و يخنق عجوزًا حتي الموت في أوتوبيس مصر الجديدة”، وتخيّلت صوري في الصفحة الأولي بصحف الأهرام والوطن و اليوم السابع والبوابة نيوز، ببدلة السجن الزرقاء والأساور الحديدية تزين يداي، فأحجمت عن غضبى ووضعت سماعاتي مرة أخرى وأنا أصيح في الجميع بصوت عال، بكلمات طيب الذكر سعد باشا زغلول: “مفيش فايدة”
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤