عندما نفرق بين الأب متى المسكين، والبابا شنودة الثالث، فنحن نفرق بين تيارين مختلفين لا يلتقيان:
الأول: يرى أن التربية الروحية الأخلاقية هي الدور الرئيس والوحيد للكنيسة، وأن أي أنشطة أخرى اجتماعية أو سياسية هي خروج على تقاليدها، ويرى أن “رهبنة الكفن” هي طريق الإصلاح الكنسي ﻻ الكهنوت أو العلمانيين، وألا تكون الكنيسة سببا في انعزال العلماني عمليًا أو روحيًا، فالكنيسة لا تعادي نظامًا سياسيًا ولا تمالئه، وهو ما يمثله الأب متى.
والثاني: يرى أن الإصلاح يبدأ بالإحياء الاجتماعي والثقافي للجماعة القبطية، وأن العلاقة بين الكنيسة والدولة تتشكل على أرضية الندية والضغط والطلبات والمحاصصة في السلطة، أو بمعنى آخر أن تكون الكنيسة كتلة تصويتية موحّدة كالحزب السياسي، والذي يكون كهنته ممثلين لباقي الجماعة، وقائمين بدور الوسيط بين الدولة والعلماني القبطي، وهو ما يمثله تيار الأنبا شنودة المهيمن على مفصليات الكنيسة الآن.
إن كليهما يمثل مدرسة في العمل؛ فالبابا شنودة يرى أن الكنيسة مؤسسة شاملة مكلفة بأن تقدم حلولًا لكل المشاكل، وأجوبة لكل الأسئلة المتصلة بالدين والدنيا، أما متى المسكين فكان له رأيًا آخر؛ وهو أن الدين علاقة بين الله وضميره، وأنه لا ينبغي أن تكون له علاقة بالسياسة.(محمد حسنين هيكل، كتاب: خريف الغضب)
الخطاة… أولًا…
إذا اقتربنا أكثر من عالم متى المسكين، لا سيما في اتجاه دور الكنيسة الرعوي، فسنجدها تدور حول معنى واحد: وهو أن الكنيسة ليست مؤسسة تضم الأقباط أو جامعة الدين والهوية، وأن المسيحية ليست جنسية تكتسب بالميلاد أو قومية بديلة، وضرورة ضبط الحدود بين الطقوس الدينية والأدوار السياسية، بين ما هو سمائي وما هو أرضي، ما لله وما للقيصر.
أوضح الأب متى في كتبه أن الكنيسة تختلف عن السلطان الزمني في كونها تعتمد على الإيمان وليس على ذراع البشر. تعتمد على الله وليس على العدد والتكتل، وعلى هذا فمهمتها ليست خدمة النظام الحاكم ولكن خدمة الإنسان، وأن تخدم المسيح في أشخاص الخطاة والعرايا والأذلاء والمشردين.
حذر متى المسكين من خروج الكنيسة عن هذا الاختصاص والنزوع للسلطان الزمني، وتجييش العواطف والمشاعر باسم الصليب، أو أن تسعى الكنيسة وراء أموال الأغنياء أو أن ترتمي في أحضان أصحاب النفوذ؛ لأنها إذا حاولت الجمع بين السلطان الديني والزمني، ودأبت على المطالبة بحقوق علمانية، فشلت المسيحية أن تؤدي رسالتها.
ورأى أن جوانب الرعاية الاجتماعية مثل: رعاية الشباب وتوجيههم وتثقيف العمال وفحص أحوالهم ومطالبهم والعناية بالطلبة، وإقامة النوادي والمعسكرات، وترتيب المؤتمرات لبحث المشاكل الداخلية والخارجية للشباب، بل وإقامة المستشفيات والملاجئ، رأى أن كل هذا يحتم أن تدرس الكنيسة نظام الحكم حتى يكون مخططها الاجتماعي موافقًا لمخطط الحكومة، وإلا فالصدام بين الكنيسة والدولة أمر لا مفر منه.
خشي الأب متى المسكين من عودة الفكر القسطنطيني تحت أي ثوب جديد، لا سيما إذا عجزت الكنيسة عن ضبط الإيمان بالإقناع والمحبة والنقاش السلمي، وهرعت إلى الملوك والرؤساء لتصدر منشورًا ملكيًا بالإيمان، عندها تكون الكنيسة قد أخطأت الطريق؛ لأن الإيمان ليس بضاعة، ولا يجب أن يُحمى بالسيف أو القانون أو بفرض السيادة قسرًا.
رأى أيضًا أنه من الخطورة أن تطلب الكنيسة القوة من السلطان الزمني، أو أن تحض أتباعها على الاستهتار بقوة الدولة؛ لأن في الأولى خروجًا على تعاليم الكنيسة، وفي الثانية خروجًا على المنطق المسيحي؛ بل ويعتبر الاستهتار بالسلطان الزمني أو الدولة تشجيعًا على الشر والأشرار، وحضًا للشعوب على الاستهانة بواجباتهم نحو الحكومات بحجة أن الكرامة والخضوع والولاء لله فقط، وبالتالي للكنيسة، وربما لإيهام البعض بأن المسيحية تنافس الدولة وتتصدى لها، فعند هذه الحالة يتحول الدين إلى عثرة تعترض طريق الإنسان وسلامه الداخلي؛ لأن هذا الفهم يدفع إلى بث الفرقة والانقسام والتكتلات الدينية والتعصب للجماعة، ويعزز عقدة الاضطهاد عند الأقليات فيجعلها مراكز ثقل في الدولة بل ويعيق تقدمها. ويشدد على أن كبت الروح الوطنية نوع من وأد الروح الإنسانية.
يرى متى المسكين أن الكنيسة تُسأل فقط عن الإيمان، وعلى هذا لا ينبغي لها أن تلفت وزيرًا أو مسؤولًا مسيحيًا في تصرفاته الحكومية؛ لأنه ليس تحت سلطانها. وهو ما يفرض عليها أن تدفع العلماني المسيحي نحو المشاركة وإبداء الرأي في كل ما يخص وطنه دون أن توحي لأبنائها بالتزام خطة تنظيمية معينة بسلوك تصرف محدد تجاه الدولة حتى لا تكون الكنيسة مسؤولة أمام السلطان الزمني أو “قائد سياسي” بين الأقباط والدولة؛ لأن الكنيسة إن فعلت ذلك تكون قد انشغلت عن قلب الإنسان، فالكنيسة لو تمسكت بهدفها الصحيح فإنها سوف تجد نفسها ملتزمة بالبشارة المجانية ومرتبطة بالخطاة المتعطشين للتوبة.
يرى مدون هذه السطور أن التراث المدني الذي تركه لنا متى المسكين، ربما يكون أهم وأعظم من التراث الروحي والنسكي. إذ ترك لنا جسرًا للمصالحة بين الكنيسة والدولة عن طريق فض التشابك الآثم بينهما. في فلسفة المسكين: الدين والوطن كيانان منفصلان ومن الوارد أن يعمل أحدهما عكس الآخر، وعليك وحدك مسؤولية فك الاشتباك الضميري بينهما. وهو تصور أكثر حداثة ونضجًا بل ومناهضة لفلسفة القديس أوغسطينوس في كتابه الأشهر: مدينة الله
الذي تم تطبيقه في النموذج القيصروبابوي للعصر الوسيط قبل إعلان فشله مع عصر الفيلسوف جون لوك مؤسس نظرية العقد الاجتماعي.
منذ أكثر من ألفي عام، قال يسوع المتهم بقلب نظام الحكم: “مملكتي ليست من هذا العالم”
اقرأ أيضا:
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟