قريبي يكره الثورة، فهو يحملها مسئولية سرقة مخزن شركته مرتين متتاليتين بالإضافة إلى “ميكروباص” صغير تابع للشركة بإجمالي خسائر ربع مليون جنيه تقريباً، وعندما ذهب ليبلغ بواقعة السرقة في قسم الشرطة الذي يلي المخزن المسروق بعمارتين سكنيتين فقط، اخبره الضابط المناوب الذي أعد المحضر انه لا يستطيع أن يساعده،
ففي الماضي كان أمناء الشرطة التابعين للقسم يجمعون المشتبه فيهم ويضربنهم “علقة موت” على حد تعبيره، فأن كان السارق من أحدهم فسيقر على الفور بالواقعة، أما إن لم يكن منهم فبالقطع سيدلهم على الجاني الحقيقي، أما الآن وقد قامت الثورة، فالضابط لن يستطيع فعل هذا الأمر مجددا، وهو لا يعرف سواه بديلاً في كشف جرائم السرقات والسطو وما شابه، حملت إجابة الضابط في طياتها رسالة واضحة، أن الثورة هي السبب في تقييد يد الشرطة عن الإتيان بما قد نهب منك، وبالتالي فهي السبب في مصيبتك الحالية.
قريبي يكره الثورة بصورة مضاعفة، فبسببها قد سرقت شركته، وبسببها لا تستطيع الداخلية الكشف عن السارق، المسكين لا يدرك أن الثورة ليس لها يد في ذلك، بل المسئولية الحقيقية تقع على عاتق داخلية مبارك التي تقاعست عن أداء دورها وتفرغت لتسييس الجريمة، والتربص بالمعارضة لحماية النظام.
قريب آخر متدين للغاية يتمنى الموت قبل أن يسمع كلمة ثورة، الغلبان لا يعرف عن الثورة سوى القليل من الحقائق، والكثير من الترويع الذي سمعه في اجتماعات الكنيسة، بالإضافة إلى تلميحات القيادات الكنسية بضرورة معاداة الثورة، وضرورة مساندة نظام مبارك الذي يحمي الأقباط في مصر من وجهه نظرهم، وهو يصدق القيادات الكنيسة دون نقاش، ودون تروي أو فحص أو شك، فصارت نظرته كالإيمان بأن الثورة تدعو للانحلال وهدم الدولة وتروج إلى المبادئ الماسونية العلمانية الهدامة،
سألته إن كان يعرف حجم الاعتداءات الطائفية التي حدثت للأقباط طيلة سنوات حكم مبارك الثلاثون فهز كتفيه نفياً، سألته عن معنى الماسونية فلم يجب، عاودت السؤال عن العلمانية فقال إنها تعنى الإلحاد، سألته أخيراً عن رأيه في د. فرج فودة فأجاب على الفور بدون تردد أنه “شهيد الكلمة الذى قاوم الإرهاب بالفكر فقتلوه”، كانت سيرة فودة قد انتشرت كثيراً في وسائل الإعلام بعد خلع مرسى والإطاحة بنظام الإخوان المسلمين، المسكين لا يعلم أن فرج فودة كان أشد الداعيين للعلمانية… الهدامة!
قريبة أخرى تجاوزت العقد الخامس من العمر بنجاح ساحق، اعتادت أن تطلق على الثورة “ساورة ٢٥ خساير” من باب السخرية والتحقير الاستعلائي، فهي تعيش بمعزل عن العالم في شقتها الدوبلكس ذات الأمتار الثلاثمائة في “مدينتى” التي انتقلت إليها بعدما يقرب من عشرة سنوات كاملة من سكنى الرحاب، أما الآن، وقد صارت الرحاب “بيئة ولمت أوي وكل اللي معاه قرشين اشترى شقة في الرحاب” على حد قولها، فكانت الهجرة لـ”مدينتي” ضرورة حتمية، بالرغم من المسافة الهائلة التي يقطعها زوجها جراح التجميل الشهير المتخصص في تهذيب وتشذيب مقدمات النساء ومؤخراتهن، إلى عيادته في جاردن سيتى بسيارته الفارهة، لكن وجود سائق خاص قد حل تلك المشكلة.
المسكينة عانت بشدة في أسابيع الثورة الثلاثة، فقد ظلت حبيسة المنزل تقريباً طوال تلك الفترة خشية البلطجية، ولم تذهب ولا مرة للشوبنج مع صديقات النادي، أما الكوافير الذي اعتادت عمل الـ”باديكير ومانيكير” عنده، فقد أغلق أبوابه أمام الجميع، لان “تشامر” صاحب المحل ذو الشعر المفلفل واللبانة التي لا تفارق فمه يخشى حرفياً من التحرش الذي قد تعرض له في السابق، لا تعلم قريبتي أن هناك ملايين من شعب مصر لا يتحصلون شهرياً على نصف ما تدفعه لـ”تشامر” في زيارتها الأسبوعية، لم أتأثر على الإطلاق عند سماعي لقصتها الحزينة، والأيام العصيبة التي مرت بها بسبب الثورة التي تكرهها، إلا عندما حكت لي بصوت متهدج انها اضطرت طوال تلك المدة الطويلة أن تقوم بإعداد الطعام وغسل الملابس بنفسها، بعد أن أغلقت كل محلات الدليفرى أبوابها، ورفضت الخدامة أن تتحرك من منزلها.
أكثرهم غلباً كان قريبي الآخر موظف الحكومة المسكين، الذي لا يتحصل على أكثر من أربعمائة جنيه من عمله المكتبي في إدارة المرور، صحيح أن مجموع “الشاي” الذي يتحصل عليه شهرياً يساوى اكثر من خمسة عشر ضعف مرتبه بحسب قوله، متباهياً بشطارته “انه يطلع القرش من بق الأسد” على حد تعبيره، إلا إنه لا يكف عن الشكوى من مرتبه الهزيل، وعن تفكيره الجاد والمستمر في ترك الوظيفة والبحث عن أي عمل آخر “يجيب همه” في أي شركة خاصة. يوم أن قامت الثورة، أنتفض هذا القريب ذعراً وخوفاً من ضياع السبوبة الشهرية من الشاي والقهوة والحلاوة التي تأتى من تسهيل مصالح المواطنين، الغلبان صدق انه سيأتي اليوم و يقاطع الشعب الرشاوي والفهلوة، وينتخب حاكماً عادلاً يقيم دولة مؤسسات حقيقية.
كلهم كوم والأخير ده كوم تأني… هكذا تحدثت إلى نفسى وأنا أتأمل ملابسه الرثة، فهو لا يملك من متاع الدنيا إلا اقل القليل، ولا يتحصل على أي دخل إضافي سوى مرتبه الهزيل من عمله المتواضع في إحدى مصانع الحيتان كما اعتاد أن يصف مالك المصنع دوما، دائماً ما يشكو من الفساد والظلم والمرتب الذي يكفيه مع زوجته و طفليه إلى نصف الشهر بالكاد، ويقضى النصف الآخر يتسول من الأقارب، هذا الأخير تحديداً هو من قامت لأجله الثورة، لكنه في نفس الوقت صار مش اشد المعاديين لها، لأنها “قضت على الاستكرار و وقفت عجلة الإنتاج ولأنها مدعومة من أمريكا وإسرائيل وصربيا وحماس وإيران الذين دعموا الخونة العملاء بتوع ٦ ابليس على إسقاط الدولة المصرية”،
سالته عن مدى ثقته في تلك المعلومات، أجاب باستنكار واضح على تلميحي بالتشكيك في صحة معلوماته: “من قناة الفراعين بتاعت الزعيم الدكتور توفيق عكاشة”، لم أشأ أن أناقشه في الأمر، فمثله لا يقبل النقاش في تلك الثوابت، لان وطنية الزعيم المناضل دكتور توفيق عكاشة هي من حقائق الكون مثلها مثل حقيقة شروق الشمس من الشرق، سألته سؤالي الأخير مداعباً عن تخصص الدكتور عكاشة، فأجبني بثقة بالغة :”أمراض نفسية و عصبية… بتسأل ليه؟”، صمت وأنا أتأمل صورة الزعيم سعد زغلول المعلقة على الحائط بإهمال واضح وقد كتب أسفلها بالبنط العريض: “مفيش فايدة”!
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤