لا توجد مدينة في العالم كله تحمل اسما على مسمى بمثل هذا الوضوح، اسما يصف حالها بكل دقة، مدينة تمددت حتى صارت أشبه بدولة كاملة، تحمل القهر في كل شبر من جوانبها، والقبح صار سمة رئيسية لشوارعها، والكره والبغض صاروا علامة مميزة لمواطنيها، هؤلاء الذين باتوا أشبه بالزومبي أنصاف الموتى أنصاف الأحياء.
القاهرة مدينة قاسية لا ترحم، والحياة في القاهرة ومحاولة التعايش مع مصاصو الدماء، هؤلاء الذين يقبعون على نواصي شوارعها، صار ألمًا لا يحتمل، والخروج خارج المنزل صار مغامرة غير مأمونة العواقب.
القاهرة حالة خاصة، منفردة ومتفردة. في البداية ستكرهها وستمقتها، وستحاول الهروب منها بكل الطرق، وبعد قليل من الوقت ستبدأ بالتعود عليها، ستمتص تفاصيلها وتستنشق ملامحها، تلك التي ستبدأ بالتسلل إلى عقلك ببطء، والترسب تحت جلدك بهدوء، ستقتحمك اقتحاما حتى تعتادها، ثم لا تعود غريبًا عنها، ستحبها ببطء، وستعشقها حتى النخاع، ولا تلبث حتى تدمنها إدمانًا، ليصير الابتعاد عنها يلزم طبيبًا متخصصًا في علاج هذا النوع من الإدمان.
إن استطعت أن تتحمل معاناة الحياة في القاهرة لمدة عام واحد، غالبًا ستمكث بها ما تبقى لك من عمر، ولن تخرج منها إلا محمولًا على النعش، وستعاني أكثر أن تأقلمت على الحياة فيها، وستعاني أكثر وأكثر إن غادرتها بحثًا عن حياة أفضل.
القاهرة مدينة مرهقة تمتص كل الطاقة، تطحن العظام وتخطف الأنفاس وتقبض الأرواح، ساعة في الشارع بين المارة كافية لإهدار عشر ساعات من النوم المتواصل، والمرور السليم بين ضفتي الشارع ليس مضمونًا، ويحمل مخاطرة تفوق مخاطرة العبث بصمام أمان مفاعل نووي على وشك الانفجار، والمواطنين القاهريين في حالة حرب مستمرة، مع أنفسهم قبل أن يكونوا مع الآخرين، مع المارة ومع السيارات ومع سائقي الميكروباصات، ومع موظفي الحكومة، ومع شرطي المرور السمج الذي يمنع مرور الميكروباص الذي يستقلونه دون الحصول على الإتاوة المعتادة.
القاهرة تقتل الإبداع، وتمتص الطموح، تتحرش بالأمنيات وتغتصب الآمال العظمى اغتصابًا، وبمرور الوقت يتحول المواطن القاهري إلى ترس في ماكينة عملاقة، حتمًا ولابد ستهرسه هرسًا خلال حركتها المستمرة التي لا تهدأ، وإن لم تهرسه فستحطم بروزاته ونتوءاته التي تميزه، وبمرور الزمن سيُبلى، وسيُلقى به من علا، بعد أن صار عالة على جسم الماكينة.
المواطن القاهري حرفياً يعمل كثور مغمى العينين في ساقية عملاقة ضخمة للغاية لا يراها، يعمل بها منذ شروق الشمس وحتى غروبها، وأحيانا لما بعد منتصف الليل مقابل بعض التبن والماء، يتقوت بهم حتى لا يسقط صريعاً للإجهاد والمرض، ثم ينهض في اليوم التالي ليأخذ دوره في نفس الساقية بلا كلل ولا ملل.
القاهرة مدينة مقيتة، تسلبك إنسانيتك يومًا بعد يوم في سبيل الحصول على لقمة العيش الضرورية، ستتخلى عن مبادئك بينما تهرس الفقير، وستتخلى عن أخلاقك وأنت تدوس الضعيف، وستتخلى عما تبقى من أدميتك بينما تطحن كبير السن طحنًا تحت قدميك في مدينة لا تعرف الرحمة ولا الإنسانية.
القاهرة مدينة واحدة وعوالم متعددة، فالفارق بين ساكني التجمع الخامس، وساكني مقابر الإمام الشافعي سنوات ضوئية لا يمكن حصرها، فقاطنو الكمباوندات ومن هم على شاكلتهم لم يمروا يومًا بتجربة زيارة مجمع التحرير البغيضة، ولا أظنهم يفعلوا في القريب العاجل، لم يرتادوا أي مصلحة حكومية، ولم يخوضوا تجربة مترو الأنفاق المؤلمة، ولا ممارسة اللهاث بسرعة الضوء محاولين اللحاق بأوتوبيس مدينة نصر الذي يحشر عشرة مليون راكب داخله دفعة واحدة، لم ينتظروا دورهم في سجل مدني الزيتون، ولم يغفوا لساعات تحت مظلة إدارة مرور مدينة السلام – وما أدراك ما هي إدارة مرور مدينة السلام – في أنتظار دورهم لتجديد رخصة السيارة، هذا الدور الذي لا يأتي أبدًا إلا بعد دفع “المعلوم” المناسب.
المواطن القاهري من أكثر المصريين خوفًا من الهجرة، لإدراكه ألا توجد دولة في العالم قادرة على أن تتحمل فشله وجهله وقلة ذكائه إلا قاهرته الجميلة، لكنه لا يعترف بقلة حيلته، وإنما يلجأ لتغليف هذا الفشل بقناعات براقة مثل الوطنية وعشق الوطن، بل ربما يتهم الآخرين أن الهجرة والسفر للخارج خيانة وقلة وطنية، محاولًا إقناعهم أن بلدهم أولى بفشلهم، وأن المصري الأصيل لابد أن يعيش ويموت في مصر ويا حبذا في قاهرته، هم لا يدركون أن “وطن المرء ليس مكان ولادته، ولكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب”، وعاشت أجيال وماتت وهي تؤمن أن حب الوطن هو أن تعيش عبء عليه، وبعد عدد من السنوات لا يعلم مقداره إلا الله، ستجد نفسك تسأل السؤال الوجودي الشهير الذي عجز الأطباء النفسيين عن الإجابة عليه: إحنا ليه عايشين في القاهرة؟ من منا لم يسأل هذا السؤال الوجودي بعد زيارته الأولى لدهب؟ هذه المتلازمة التي تحدث لأي مواطن قاهري يزور دهب، خصوصًا أن كان لا يزال يحتفظ بالحد الأدنى من عقله واتزانه، وكثيرون هجروا القاهرة بالفعل وتركوها واستقروا في دهب بعد الزيارة الأولى.
أكبر تنازل تقدمه في حق نفسك هو أن تتأقلم على وضع أنت لست مقتنع به ولا تريده.
أكبر تنازل هو أن تتأقلم على الحياة في القاهرة وتعتاد على ألم الحياة فيها وتستسيغه.
الخطيئة العظمى التي لا تغتفر، والتي يمكن أن يفعلها أنسان ناضج في حق نفسه، هي أن يقرر بكامل إرادته الحرة أن يمضي بحياته في القاهرة، والخطيئة الأعظم هي أن يقرر أنسان ناضج، وبكامل إرادته الحرة أن يترك مدينته ويرحل صوب القاهرة للحياة فيها، تحت دعاوي براقة زائفة مثل العمل والدراسة والنجاح.
القاهرة ليست مدينة، القاهرة روح شريرة تتلبس كل طفل بمجرد وصوله لهذا العالم البغيض في القاهرة، ولا يستثنى منها أحدًا، حتى لو أتى له أبواه بشيخ يكبّر له في أذنه ويقرأ عليه القرأن كاملًا، أو قسيسًا يرشمه بعلامة الصليب ويقرأ عليه الإنجيل كاملًا. تلك الروح الشريرة تنتظر كل من يصل للقاهرة، تتلبسه على الفور، ولا تتركه حتى لو غادرها، إلا بعد ردحًا غير يسير من الزمان.
في العام الأخير قبيل هجرتي للخارج، أيقنت فجأة أنني لم أعد ذاك الإنسان الذي أتى للقاهرة مهاجرًا من قلب الصعيد منذ عشر سنوات، يحمل بعض الطموح والآمال العظمى، والكثير من المبادئ والإنسانيات، أفقت من غفوتي لأجد نفسي قد تحولت إلى إنسان أخر، لا يتورع عن القيام بأي شيء وكل شيء في سبيل مصلحته الشخصية، ولم يتبق لي الكثير حتى أصير وحشًا أدميًا، حينها فقط أدركت انه لم يعد هناك مناص ومفر من الهروب، ومع أول فرصة متاحة، لملمت حاجياتي البسيطة وهربت في أول طائرة خارج البلاد.
بعد عدد من سنوات الغربة، عدت للقاهرة التي أحببتها وعشقتها يوماً ما، في زيارة سريعة كان من المقدر لها أن تستمر لثلاثة أسابيع، لكن طبيعتي التي تغيرت، أو عادت لطبيعتها بمعنى أدق، أجبرتني على العودة من حيثما أتيت قبل أن يتم الأسبوع الأول أيامه السبع.
لو كنت تعيش في القاهرة وتقرأ هلوساتي تلك، فأنصحك بالهروب منها.
أهرب قبل أن تفقد أخر ما تبقى من آدميتك، أهرب قبل أن يفوت الأوان.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤