منذ الإعلان عن الزيارة التي يبدأها غدا البابا تواضروس الثاني، بابا كنيسة الإسكندرية، إلى البابا فرنسيس، بابا كنيسة روما، وثائرة من يدعون حماية الإيمان لم تهدأ على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث دارت مَاكِينَة التهديد والوعيد والابتزاز وتوجيه الاتهامات بالتفريط في الكنيسة والإيمان، وظهرت هذه الأمور على عدة مستويات بداية من "هذا الأسقف" الظاهرة الصوتية في مجمع الأساقفة، ويختفي من خلفه بعض رفاقه في المجمع ولجانهم الإلكترونية، ولكن هؤلاء يا عزيزي لا يفرق معهم لا المسيح ولا الكنيسة ولا الإيمان ولا أنت شخصيا، بل يفرق معهم تدجينك والسيطرة عليك واستمرار الحصول على أموال عشورك التي تقدمها إلى الله.
حال كنيسة الإسكندرية (القبطية) اليوم عبر عنه باقتدار الأديب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس في رواية “الإخوة الأعداء”، بشخصية الأب ياناروس المنتمي لشعبه وخادمهم في مواجهة الرهبان الطامعين في قوت الفقراء باستخدام الدجل وادعاء تحقيق معجزات، فكانوا يكرهونه خاصة حينما جاء راهب إلى القرية يدعي أن معه حزام للسيدة العذراء ويطلب من شعب القرية الفقير التبرع لما لديهم من أجل رؤية الحزام والحصول على المعجزات.
وشد الأب ياناروس لحيته، وامتلأ فمه بسباب ديني لم يلبث أن ابتلعه قائلًا لنفسه.
– سامحيني أيتها العذراء البتول، فانا لا أثق في الرهبان، هل هذا حزامك حقًا يا سيدتنا؟
فمنذ سنوات عديدة شاهد هذا الحزام في فاتوبيدي على جبل آثوس وانحنى عليه وقبله. كان حزامًا من الصوف ذي اللون البني المنسوج بخيوط من الذهب، بَلّى وتخرَّق بفعل الزمن لكن العذراء كانت امرأة فقيرة. وكان المسيح كذلك فقيرًا طوال حياته على الأرض. فكيف استطاعت العذراء أن تحصل على مثل هذا الحزام الثمين المنسوج بخيوط الذهب؟
(نيكوس كازانتزاكيس، الإخوة الأعداء “رواية”، تَرْجَمَة إسماعيل المهدوي)
وكان رد فعل الأب ياناروس هو الشفقة على شعب قريته فرفع صوته وأخبرهم إن العذراء أرسلت لهم خيراتها مع هذا الراهب وأخذ مما جمعه من رحلته بين القرى المختلفة ومنح شعب قريته الفقير، فاغتاظ هذا الراهب لما ضاع منه وأراد أن تنشق الأرض وتبلع الأب ياناروس.
كان الأب ياناروس يعرف إذن تدليس الرهبان، وعندما ركع أمام حزام العذراء في فاتوبيدي، انتحى بخادم الدير ركنًا وسأله في ثقة شخصية: “وحق بركتك أيها الأب المبجل، هل أنت متأكد أن هذا بالفعل الحزام الحقيقي الذي كانت تلبسه العذراء؟”.
وكان الراهب رجلًا مهيبًا له كرش كبير ابتسم في خبث وأجاب: “لا تبحث في هذه المسائل البعيدة يا أب ياناروس. المهم أن يحقق هذا الحزام معجزة أو معجزتين، فإذا لم يكن حقيقيًا أصبح كذلك”.
(نيكوس كازانتزاكيس، الإخوة الأعداء “رواية”، تَرْجَمَة إسماعيل المهدوي)
هذه الرواية تعبر بشدة عن واقع الكنيسة اليوم، فبعض من أصحاب العمم السوداء المنتفخة لا يفرق معهم المسيح شخصيا، ولا الكنيسة، ولكن الحفاظ على سلطانهم في التسلط على رقاب الشعب الخانع والخاضع لهم، ولا يريدون لهم أن يرفعوا رؤوسهم أو يفكروا لئلا يفقدوا سلطانهم عليهم، بالتالي لن يستطيعوا الحصول على أموالهم كما هو حادث، ومن أجل هذا يقاومون التعليم والبحث والتفكير، ويشجعون على الجهل والتعصب بدعوى حماية الإيمان.
نرى ثائرة هؤلاء تنتفض عند أي حديث عن التقارب بين كنيسة الإسكندرية والكنائس الأخرى خاصة الكنيسة الكاثوليكية، التي أجرت الكثير من الإصلاحات داخلها، خوفا من أن تمتد عدوى الإصلاح لهم فيفقدون مكانتهم التي رسخوها بتثبيت السجود لهم وتقبيل أياديهم، ونفضوا من وسطهم من دعا لفعل العكس والمقصود هنا هو الراحل “الأنبا إبيفانيوس”، رئيس دير الأنبا مقار المقتول غدرا على يد راهب فاسد، فقد صرح إبيفانيوس سابقًا أنه “يفهم في الوحدة وليس الانشقاق”، وكان يرفض أن يقدم له أي شخص الميطانية “السجود”، وكل هذا مسجل في فيديوهات.
فنموذج إبيفانيوس الأسقف الذي يمارس الأبوة لا السلطان، الذي يدرس ويشجع على التعليم والدراسة ويفتح قلبه وفكره للتقارب والوحدة مع الكنائس الأخرى مكروه، ويتم التأمر عليه كما حدث مع المسيح نفسه من رؤساء كهنة اليهود في زمنه لقتله، خوفا على سلطانهم، هذا النموذج من رجال الدين عبر عنه نيكوس كازانتزكيس ببراعة في هذا المقطع من الرواية على لسان شماس شاب ترك الدير والتقى بالأب ياناروس.
ألا تسألني من أنا؟ سأتكلم باختصار لأني متعجل. كنت شماسًا شديد الحماس في أسقفية، وكنت سأصبح أسقفًا. لكنني رأيت. انفتحت روحي ففهمت.
فرسالة المسيح قد هانت، وانمحت آثاره المقدسة من الأرض. فنحن لا نتبع إلا آثار المنافقين ذوي اللحى. الآثار التي تركتها في الوحل حوافر الشيطان. لقد قلبوا كلمات المسيح فجعلوها: “طوبى للقساة بالروح لأن لهم ملكوت الأرض. طوبى للمتكبرين لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاشى إلى الظلم. طوبى لمن لا يرحمون. طوبى لمن لهم قلب دنس. طوبى لصانعي الحرب”. هؤلاء يسمونهم اليوم مسيحيين.
(نيكوس كازانتزاكيس، الإخوة الأعداء “رواية”، تَرْجَمَة إسماعيل المهدوي)
إلى أيهما تستمع؟ إلى المسيح ومن ينفذون كلامه بتغليب المحبة والحوار ودعم الوحدة؟ أم إلى بعض أصحاب العمم المنتفخة الذين لا يفرق معهم لا إيمان ولا غيره ولكن كل همهم نقودك وممارسة السلطان عليك باستدعاء ناموس العهد القديم بتشريعاته وتعقيداته لتقييدك به حتى تكون دائما في احتياج لهم هم لا للمسيح الذي حررك من هذا الناموس وقساوته؟
عزيزي المصنف “قبطيا أرثوذكسيا”، هذا كلام المسيح في إنجيل يوحنا الذي يريد وحدة جميع من يؤمنون به فهل تسمع له؟ أم لممارسي خطاب الكراهيَة ودعاة الفرقة؟
وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ، وَأَمَّا هؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ.
لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي.
وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ.
(إنجيل يوحنا 17: 11، 21-22)
فبعد 16 قرنًا من القطيعة وتمزيق الكنيسة، حينما يأتي رجلان -تواضروس وفرنسيس- يريدان أن تقترب كنيستي روما والإسكندرية فهما هنا يريدان تنفيذ وصية المسيح، ومن يقف في وجههم بدعوى الحفاظ على الإيمان فهو هنا يقف في وجه المسيح نفسه.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.