المقال رقم 5 من 12 في سلسلة مفيش فايدة
الحياة في الكويت و في دول الخليج عامة بدون سيارة خاصة معاناة لا حدود لها، لا يعرفها إلا من يعيش في الكويت، فدرجة الحرارة في الصيف تتجاوز الخمسين في الظل، أما درجة حرارة الأسفلت فتصل إلي السبعين، والتصاق نعول الأحذية بالأرض الملتهبة بعد ذوبانها أمر معتاد، هذا إن استطعت السير علي أقدامك ولم يغم عليك من الجفاف، أما في الشتاء فالسماء تمطر طوال الوقت، والمعتاد أن تستمر الأمطار أياماً كاملة دون توقف، والغريب هو ألا يكون هناك أمطار في السماء، والسيارة هناك ضرورة أساسية من ضروريات الحياة.

بعد أسبوعين تحديداً من وصولي الكويت، وفي “قعدة” جمعتني برفاق الدراسة الذين كنت أعلم بوجودهم في الكويت، والذين علمت بوجودهم لاحقاً، علي قهوة بلدي في منطقة “حولي” التي تعج بالمصريين، اخبروني بتلك المعلومات مع نصائح بضرورة الحصول علي رخصة في أقرب وقت ممكن، ثم تبعوها بقائمة طويلة من الصعوبات في سبيل استخراج الرخصة، منها ضرورة الحصول علي مؤهل عالي من احدي كليات القمة، وأن يتجاوز المرتب الشهري رقم معين، إضافة إلى بعض الشروط الأخرى، والأهم من ذلك إجادة القيادة، تفحصت قائمة الطلبات، فوجدتني أستوفي جميعها ماعدا الشرط الأهم، إجادة القيادة، خصوصاً أن اختبار القيادة في الكويت أصعب من مثيله في مصر بمراحل، ولا يجتازه بسهولة حتي المتمرسين علي القيادة في السابق، طيب و الحل؟ خصوصاً أني لم أقد سيارة في حياتي من قبل!

اخبرني احدهم في جدية مصطنعة تليق بجدية إعلان قرار إطلاق الحرب العالمية الثالثة: “الحل في الأسطورة”، أجبته بسخرية: “رفاعي الدسوقي؟”، ضحك الجميع بينما امتعض الصديق قائلاً: “لا يا خفيف، الأسطورة عم مجدي الأسيوطي.. وزير المواصلات”، أجبت بسخرية مرة أخري متعمداً: “هو وزير المواصلات الكويتي من أسيوط؟”، أخبرني الصديق بنفس درجة الاهتمام، أن عم مجدي الأسيوطي هو كلمة السر في موضوع رخصة القيادة، وهو الوحيد القادر علي استخراج الرخصة حتي لو لم اجلس أمام دركسيون سيارة في حياتي، مقابل مبلغ من المال، ولهذا يطلق عليه المصريين في الكويت لقب “وزير المواصلات”، ثم اشتد عوده و انتصب و هو يقول منتشياً بافتخار كمن أكتشف سر القنبلة الذرية، إن عم مجدي يمت له بقرابة وإن كانت بعيدة بعض الشيء، ومن ثم فسيحدد لي موعد في القريب مع معاليه لبحث الموضوع،

سالته سؤال أخير عن أمانة الرجل، فالنقود التي بحوزتي الآن قليلة وأي عملية نصب محتملة ستقصم ظهري، أجابني بثقة يحسد عليها أن أمانة عم مجدي أسطورة منفردة تنافس أسطورة قدرته على تخليص الرخصة نفسها، في اليومين التاليين سألت بعض الأصدقاء الآخرين فأكدوا لي أسطورة عم مجدي وأسطورة أمانته التي يضرب بها المثل، فعم مجدي يحصل علي المبلغ المطلوب في ليلة التنفيذ، وهو سعر ثابت لا يقبل الفصال، ثم تذهب لاختبار القيادة في اليوم التالي بحسب الاتفاق، فأن حدث لا قدر الله ظروف طارئة حالت دون النجاح في الاختبار، فأن عم مجدي يرد لك النقود كاملة وفوقهم “حاجة ساقعة” مثلما أعتاد أن يفعل، حتى يحين موعد الاختبار التالي فتنقده المبلغ مرة أخري استعداداً للاختبار، لم أصدق ما سمعته، فهل يوجد أناس بمثل تلك الأمانة في هذه الأيام؟

ترجيت صديقي لتحديد موعد مع عم مجدي في مقره الصيفي بقهوة المصريين بمنطقة “حولي”، في ميعاده بالضبط أتي الرجل، لم أجد به ما يوحي أنه أسطورة علي الإطلاق، فـ عم مجدي قصير القامة بشكل لافت للنظر، تبرز عظامه من تحت جلده، ينفث دخانه بلا توقف كقطار الغرب السريع ولا يكف عن السعال معظم الوقت، عيناه تشع بريقاً، ويمتلك مخزوناً لا ينضب من دهاء و خبث الفلاح المصري الأصيل يتفوق علي مخزون الخليج العربي من البترول، عرفته بنفسي، وطلبت منه بمودة أن يساعدني في موضوع الرخصة بينما أحاول تفادي رذاذ لعابه المختلط بالنيكوتين والذي ينثره في أوجه الجميع بلا استثناء، سألني عن موعد الاختبار وعن اسمي الرباعي ورقمي القومي، أجريت محاولة يائسة لتخفيض السعر المطلوب، فأجاب بحزم “لو معاكش فلوس قولي وأنا ادفعلك… وكل الناس تشهد إني عملت الموضوع ده ببلاش لناس كتير قوي كانوا مزنوقين في الفلوس، منهم اللي رد الفلوس بعد كده ومنهم اللي مردهاش، إنما انزل في السعر ده مش عندي، لو مش معاك فلوس يابن الناس قولي وأنا من عيني أساعدك من غير ولا أي حاجة”،

حاصرني اللعين بكلماته، فلم أتفوه ببنت شفه، سألته عن ضمان الحصول علي الرخصة المطلوبة، أجابني وهو ينفث دخان سيجارته السادسة عشر منذ أن رأيته من نصف ساعة “بص يا بني… بنسبة 95% الرخصة ها تبقي معاك بكره، إنما لو العدد كبير والضغط عالي… الجماعة بيضطروا يسقطوا شوية من الناس اللي مقدمين علي الرخصة، ولو حصل ومعدتش بكره تيجي تستلم فلوسك كاملة زى ما هيا وفوقيهم حاجة ساقعة، والحاجة الساقعة قبل الفلوس… أه… حد الله بيني وبين الحرام”، أومأت برأسي بعلامة الموافقة، وأتفقنا علي اللقاء عشية موعد الاختبار لتسليمه المبلغ كاملاً، وبالفعل، بعدها بأسبوعين وفي ليلة أختبار القيادة نقدته المبلغ كاملاً بحسب الاتفاق، ودخلت الاختبار ولم أوفّق، فقد صعدت علي الرصيف مرتان متتاليتان، بينما كان صاحب السيارة التي استأجرتها لأجري الاختبار يلعنني سراً وعلناً، بل يكاد أن يُصاب بسكتة قلبية من جراء الدمار الذي ألحقته بسيارته، حصلت علي نتيجة الاختبار وعلامة الرفض تسطع فوقها بلون أحمر زاهي، و هرعت لـ عم مجدي اخبره بنتيجة الاختبار بلا أي أمل في الحصول علي نقودي التي أستولي عليها بالأمس، وبكل ثقة طلب مني أن أقابله في القهوة حتي احصل علي نقودي كاملة دون أي خصومات وفوقها زجاجة مياه غازية كما وعدني، وبالفعل قابلته، ولم أصدق عندما أخرج لي نقودي، أحصيتها فوجدتها كاملة لم تنقص فلساً واحداً، كم هو أمين هذا الرجل، هممت بالذهاب لكنه أقسم بأغلظ الإيمانات ألا أذهب قبل أن أحتسي مشروبي المثلج، أخبرته بموعد الاختبار القادم فأجاب بنفس الثقة المعتادة “ها تاخدها المرة الجاية متقلقش”

في الشهور التالية، داومت علي دروس تعليم القيادة وأجدتها في وقت قياسي، وفي ليلة الاختبار هاتفت عم مجدي الأسطورة، ونقدته المبلغ كاملاً، وفي اليوم التالي أجريت الاختبار وحصلت علي الرخصة وألا أكاد أن أصدق نفسي، هاتفني هو تلك المرة ليستعلم، وعندما علم بنجاحي هنأني.

بعد أربع أشهر وبينما أتصفح احدي الصحف اليومية، وجدت صورة عم مجدي تتوسط صفحة “الحوادث” وتحتها بالبنط العريض “نصاب مصري يوهم ضحاياه بقدرته علي استخراج رخص القيادة”، وفي تفاصيل الخبر كتب: “تم سؤال المتهم عمن يساعده داخل إدارة المرور في استخراج رخص القيادة بغير حق، فنفي معرفته بأيّ من ضباط المرور ولا موظفيها، لكنه كان يوهم ضحاياه انه يمتلك من المعارف والصلات داخل إدارة المرور ما يمكنه من استخراج الرخصة بسهولة، ويذهب الضحية لأجراء الاختبار، فأن اخفق المجني عليه، فالمتهم يعيد له نقوده كاملة حتي لا يفقد سمعته، وإن نجح في الحصول علي الرخصة -دون مساعدة بالطبع- فأن المجني عليه يأتي و يهبه النقود كاملة بكل رضي، وبسؤال المتهم عن عدد ضحاياه أجاب انهم ما يربو من ألف ضحية، وبالكشف عن أرصدة المتهم، وجد بحسابه البنكي ما يتجاوز العشرون ألف دينار كويتي، وهو ما لا يتناسب مع عمله المنصوص في إذن العمل الذي يحمله كعامل بناء”، لم أكمل بقية تفاصيل الخبر وأغلقت الصحيفة وقد علت وجهي ابتسامة عريضة فخوراً بعقلية وذكاء أبناء الوطن الأم وأنا أتمتم “مفيش فايدة”

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مفيش فايدة[الجزء السابق] 🠼 بتاع عربية الفول[الجزء التالي] 🠼 قاهرة الأحلام
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤