تجمعنا نحن العاطلين قهوتنا المميزة في وسط البلد، تلك التي نتخذها عنواناً مميزاً لنا لشهرتها الكبيرة، فقد اشتهرت قهوتنا - أو الـ"كوفى شوب" - مثلما يحلو للحاج صاحب القهوة أن يلقبها، بعد أن أنعم الله على ابنه بعمل في تلك الشركات الخاصة، فأصرينا نحن العاطلين على مقاطعة القهوة وصاحبها هذا الخائن العميل المدسوس، لولا أن حلف على المصحف انه تبرأ من ابنه، ومن فعلته الدنيئة بعدما ترك القضية وباعها بعد الحصول على هذا العمل،
كان ابن صاحب القهوة من كبار المدافعين عن قضية البطالة، منذ أن تخرج من كلية الحقوق جامعة جنوب الوادي، منذ أحد عشر عام، وحصل على الترتيب الأول على دفعته – مثلما أقنع والده – بتقدير مقبول مع مرتبه الشرف، وهو يتخذ موقعه المميز في صدارة القهوة، ويتخذها مقراً لأحاديثه الصحفية باعتباره محامياً،
كان يتحدث باستمرار عن البطالة، ويدافع عن حقوقنا نحن صغار كبار العاطلين، حتى تطور الأمر وصارت القنوات الأجنبية تأتى باستمرار وبشكل دوري للحصول على تصريحات من اسم النبي حارسه وصاينه، عن قضية البطالة وأسبابها وحلولها، حتى اصبح منافساً للحكومة نفسها، فبمجرد أن يخرج علينا وجوه السادة المسؤولين بتصريحات مليئة بالآمال، بقرب انحسار أزمة البطالة، فنتوقع هجوم صحفي في اليوم الذي يليه على قهوتنا للحصول على ردود “المتر” ابن صاحب القهوة عن مدى صدق أو كذب تصريحات السادة المسئولين،
وبالرغم من أن التصريحات جميعها باتت مكررة و محفوظة سواء، كانت تصريحات الحكومة أو تصريحات الأستاذ المحامي، لكن أعداد الصحفيين لم تتناقص يوماً ما، بل العكس فقد كانت تتزايد يوماً بعد يوم، حتى أتى ذلك اليوم الذي اعتقدناه نهاية العالم، أو هكذا ظننا عندما اعلن السيد الأستاذ المحامي ابن صاحب القهوة عن إنشاءه نقابة للعاطلين، تجمع كل عاطلي مصر، تحت مظلة نقابة ومؤسسة واحدة ترعى حقوقهم، وتوفر لهم القهاوي التي سيجلسون عليها وتوفر طلباتهم من القهوة والشاي والشيشة و الطاولة والدومينو بأسعار مناسبة،
وبما أن عدد العاطلين في مصر يقترب من أربعين بالمائة من تعداد المصريين، لذا توقع سيادته انه في ظرف شهور قليلة ستصبح نقابة العاطلين أقوى نقابة في مصر على الإطلاق واكثرها عدداً وأوسعها انتشاراً، مما جعل الحكومة تنتفض فجأة وتصحو من غيبتها، لترى من هذا الثورجي الذي سيحرك المياه الساكنة، ويحل مشكلة العاطلين الذين وصلت الدفعات الأكبر سناً منهم إلى عمر الخمسين عاماً أو يزيد، ولا يزالوا يبحثون عن عمل منذ أن توقفت إدارة القِوَى العاملة عن تعيين الدفعات الجديدة منذ عام 1985.
وبدأت الحرب بين الحكومة وبين السيد الأستاذ الدكتور المحامي، هذا اللقب الذي اطلقه عليه والده الحاج صاحب القهوة بعدما اشتهر ابنه في الفضائيات، كعادة مصرية قديمة، أن يسبق اسم السادة المشهورين والمسئولين لقب دكتور، حتى لو كان أقصى ما أستطاع الحصول عليه هذا المسئول بعد جهد جهيد، هي شهادة دبلوم الصنايع دور نوفمبر، وتحولت قهوة العاطلين إلى ساحة قتال شبه يومي، فهو يتوعد الحكومة بإنشاء حزب للعاطلين، كخطوة ثانية بعد إنشاء النقابة، ومن ثم سيعلن ترشحه لانتخابات رئاسة الجمهورية التالية، وبما أن اكثر من 40% من الشعب ينتمى إلى حزبه الذي سينشئه – على اعتبار ما سيكون – لذا فأن فرص واحتمالات حصوله على منصب الرئاسة بات وشيكاً وشبه مؤكد، وبما انه عاطل قد الدنيا لذا سيكون الأقرب إلى شباب العاطلين والأعلم بهمومهم ومشاكلهم، والحكومة تتوعده أنها لن تستطيع أن تمسك أعصابها أكتر من كده، ويا ويله يا سواد ليله من شر الحكومة إذا غضبت، فيرد صاحبنا ده قائلاً “فى المشمش” ونجوم السما أقرب لها من أن تستطيع أن تعتقله، لان ما يقرب من نصف الشعب معه، ولو كانت الحكومة تسطيع فعل ما تهدد به لفعلته من زمان دون تهديد أو وعيد، فأرسلت الحكومة مندوبا تلو الأخر لمحاولة تهدئة الموقف المشتعل بين الطرفين دون جدوى، واستعرت المعركة و التهبت حتى بادت توشك على الانفجار.
في وسط تلك المعمعة التي ضربت فيها الحكومة أخماساً في أسداس، وشعرت أنها قد “تلغوصت في الوحل”، نهض احد المسئولين الصغار في مؤسسة الرئاسة، ممن يحاول ارتقاء درجات سلم الوصولية متحيزين الفرصة لهذا، مقترحاً أحد الحلول الجهنمية البسيطة، وبالرغم من سذاجة أقتراحه الذي بدا أقرب إلى الغباء في بداية الأمر، إلا أن الفكرة راقت لهم كثيراً، وناموا ليلتها مرتاحي البال، وكثيراً من رجال الحزب أقسموا اغلظ الإيمانات أن ما فعلوه مع زوجاتهم في تلك الليلة في غرف نومهم لم يفعلوه منذ أيام الشباب، خاصة وأن الكثيرين منهم لم يستطيعوا ممارسة حياتهم الطبيعية منذ أن طفت تلك المشكلة إلى السطح.
في الغد، نهض هذا المسئول الصغير متجهاً صوب قهوتنا العزيزة التي غطتها لافتات الشعارات بجميع الألوان والأحجام والأشكال، واتجه إلى الدكتور المحامي، طالباً منه أن ينتحى به خارج القهوة لثوان معدودة، ثم خرج هذا المسئول الذى لم يعد صغيراً الآن، وعلى شفتيه ملامح ابتسامة لم يستطع أن يخفيها، تلك الابتسامة التي تشابهت مع مثيلتها على وجه الأستاذ المحامي ابن صاحب القهوة،
وفي اليوم الذي يليه، أنفض المولد، بحجة أن الأستاذ المتر قد وجد عملاً كمستشار قانوني في إحدى الشركات الخاصة بمرتب مغري ذو عدد من الأصفار على يمينه، ومن ثم فهو تراجع عن موقفه السابق في قضية البطالة، لأنه وجد عملاً ممتازاً كهذا، دون واسطة ولا محسوبية ولا كوسه ولا أي نوع من الخضار، ومن ثم وللأمانة فيجب عليه الاعتراف بخطأة في مهاجمة الحكومة، وأن ما فعله كان نوعاً من الافتراء على الحكومة الغلبانة، وعلى العاطلين بحث قضاياهم بأنفسهم، وبما انه قد انتفت عنه صفة العاطل فهو لن يستطيع الاستمرار في الدفاع عن قضيتهم، وبعدين هو أصلاً مش فاضي وعنده شغل الله يكون في العون، لكنه لم ينس والده الحاج الذي سعد كثيراً بما وصل إليه ولده فلذة كبده، وانه كان يخبئ أمامنا نحن العاطلين مشاعره حرصاً على مشاعرنا المرفهة، وحرصاً على زباين القهوة، لكنه لم يستطع رفض طلب أبنه بتحويل اسم القهوة إلى “كوفي شوب” بعدما أصبحت كلمة قهوة لا تتناسب و مستواه الاجتماعي، ومن هنا رجعنا نحن العاطلين إلى لعب “الدومينو” والطاولة وعدنا إلى حالنا القديم باستثناء أننا قد غيرنا محل تواجدنا من قهوة العاطلين إلى: “عواطلية” كوفي شوب.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤