المقال رقم 2 من 12 في سلسلة مفيش فايدة
فجأة.. انتبهت إلى أنني سأتم عامي الخامس والثلاثون بعد أيام قليلة.. صدمتني تلك الحقيقة البسيطة وجعلتني أتساءل بجدية.. كيف سقطت الأعوام العشر الأخيرة بغّتة من حياتي؟

لا أتذكر من الماضي سوي أن حياتي البسيطة كانت تمضي بهدوء ورتابة، من طفولة سعيدة في بيت دافئ مفتوح للجميع، ومملوء بضحكات الأهل والأقارب، إلى مراهقة صاخبة مملوءة بالأصدقاء والأصحاب، لا يشغل حياتي سوى الضحك والمرح، واجتذاب اهتمام بعض الفتيات، ولا يقضّ مضجعي سوى تفاهات المراهقة الجميلة، إلى حياة جامعية أكثر روعة تنبئ بمستقبل مشرق، ثم حب رومانسي مع أَغَانٍ لمنير وفيروز تصدح في خلفية المشهد، ثم فجأة…

مشروع ارتباط وخطوبة وزواج وكائن صغير يحمل الكثير من ملامحي، ولا يكف عن البكاء ليلًا نهارًا.

أصحو من النوم وأتأمل المرآة لأجد شخصًا أخر يراقبني، شخصًا كان يحمل بعضًا من ملامحي إلى وقت قريب جدًا، بجانبي زوجة لا تكف عن التسوق طوال الوقت، وأطفال محملين بقائمة طويلة من الطلبات، وعمل مرهق مملوء بمشاكل متجددة ومتزايدة، ليتحول اليوم برمته إلى قائمة طويلة من المهام، لا يكفي اليوم لإتمام نصفها على أفضل تقدير.

أترقب المناسبات العائلية لرؤية الأهل والأقارب، فأجد أطفالهم قد شبّوا، وقد عَلاَ وجوه الذكور منهم شارب المرحلة الإعدادية بلونه اللون الأخضر المستفز، أما الإناث فقد ظهر عليهن ملامح البلوغ المبكر، ينادوني جميعًا بلا أستثناء وبصوت عالي: “أزيك يا أونكل؟”، متى تحولت أنا إلى ذلك “الأونكل”؟

تنضب دعاوي الأفراح وحفلات الزفاف رويدًا رويدًا، تلك التي كانت تلاحقني يوميًا حتى وقت قريب دون القدرة على الوفاء بجميعها لضيق الوقت، ويحل محلها أخبار مفجعة وحزينة عن رحيل بعض الأقارب والأهل بل والأصحاب، ويحل القلق محل الاطمئنان، ويهجر النوم العميق مضجعي ويحل محله القلق والـ over thinking، ويبدأ الخوف على أبنائي ومستقبلهم، وأسرتي وبيتي، وأبي وأمي وأهلي، واستقرار عملي، فجأة أصبحت أتلقى اللوم من هذا أو ذاك إن أغفلت بعض الواجبات الاجتماعية المقيتة، وأصبح الجميع يعاملني كإنسان ناضج بلا رحمة.

صارت الثلاثينيات هي فترة دفع فاتورة وحساب فترة العشرينيات الجميلة، وعليّ الوفاء بالدين مع فوائده المجحفة بلا أي فرصة للفكاك.

أغمض عيناي محاولاً تذكر تفاصيل الماضي، فأجد معظمها وقد صار ضبابيًا، أتلمس بلهفة العاشق أخبار أصحاب وأصدقاء الماضي، فربما حظيت بسبب مقنع يجعلني أهاتف أحدهم، فنتجاذب بعض الذكريات، أخط بأيدي مرتعشة كل ما تجود به ذاكرتي عن ذكريات الماضي.. ذاكرتي التي صارت ضعيفة ولا أستطيع أن أنكر ذلك، أكتب بسرعة كلما تذكرت إحدى التفاصيل، فربما لا يسعني الوقت وأنساها.

في السابق كانت فكرة البقاء في المنزل وعدم الخروج تخيفني كثيرًا، الآن أصبحت فكرة الخروج من المنزل ومحاولة التعايش السلمي مع تلك الكائنات التي تتربع على نواصي الشوارع تخيفني أكثر، أصبحت أسير أوراقي وكتبي وقلمي ونبتتي الصغيرة وأغاني فيروز التي تصدح طوال الوقت بلا توقف، وأصبح التقوقع هوايتي الجديدة التي أمارسها بلا كلل أو ملل، أصبحت أتحاشي النقاشات الجدلية التي كنت أعشقها في السابق، والسياسية منها على وجه التحديد، حتى لو أجبرتني الظروف وقادتني للنقاش، لا أبذل أي جهد في سبيل إثبات وجهه نظري، حتى بالرغم من عدم منطقية ما يتفوه به الآخرون، وما يصاحب حديثهم من غباء مستحكم، أصبحت أستمتع بكذب الآخرين، حتى مع إدراكي بفداحة كذبهم المبالغ فيه، أجد نفسي أترفع عن فضح كذبهم، بل وأتصنع الاندهاش أحياناً مسايرة للموقف.

تخليت طواعية عن محاولاتي المستميتة لإصلاح الكون، وأيقنت أن المعتوه سيظل معتوهًا طوال عمره، وأن الغبي سيزداد عمقًا في غبائه، أصبحت أتغاضي عن الغضب، وأتجاهل من يتعمدون إغضابي عَنْوَة، أصبحت الابتسامة الساخرة جزءًا مميزًا من ملامحي، أسخر طوال الوقت من المنافقين والمتلونين والمتصارعين على توافه الحياة، يقيني ألا شيء سيظل على حاله، وأن من يسَعد اليوم لابد وأنه سيَحزن غدًا، وأن الحزين اليوم لابد وأنه سيسَعد غدًا.

في زيارتي الأخيرة لمصر بعد أعوام من الغربة، التقيت مع منَ تبقي من أصدقاء الماضي، وجدتني أتحدث مع أشخاص لا أعرفهم، الوجوه هي ذاتها التي كنت أعرفها في السابق، أما الروح فقد تبدلت واختلفت وتغيرت كثيرًا، صاروا أُناَسًا آخرين غير الذين صادقتهم في السابق، صرت لا أفهم دعاباتهم ولا أتقبلها، ربما لأن الذين يهاجرون للخارج تتغير نظرتهم للحياة، وفكرتهم عن الرَفَاهيَة.. عن رائحة الهواء وعن معني الراحة، وربما عن الانتماء.

مع مرور السنوات اكتشفت أنني قد تغيرت كثيرًا، صرت أحب ما كنت أكره، وصرت أكره ما كنت أحب، نسيت ما تعلقت به في السابق، وتعلقت بأشياء لم أكن لأتعلق بها أبدًا، صارت أقصى أُمنياتي هاتف مغلق، ابتعاد عن الجميع، صمت، مشروب دافئ، هدوء عظيم، ذهن يخلو من أىّ شيء، ومضت الحياة لتجعل مني شخصًا لا يشبه قرينه السابق.. شخصًا لا يشبهني.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مفيش فايدة[الجزء السابق] 🠼 هل نضجنا قبل الآوان؟[الجزء التالي] 🠼 نقابة العاطلين
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤