أقلب صفحات الفيسبوك فأجد معظم صور "بروفايلات" أصدقائي قد تحولت لصور أطفالهم، فأتعجب، متى أنجب هؤلاء تلك الكَمّيَّة المهولة من الأطفال؟ وأين ذهب هذا الجنون العبثي الذي ميز صفحات أصدقائي في السابق؟
أقلب في صفحات رفاق الثورة والنضال، فأجد صوراً لهم مع شركاء حياتهم، وصور نزهتهم الأخيرة في الساحل، وصور وجبتهم الأخيرة عند “أم حسن” من باب إحداث النعمة، فأتذكر يوم أن كنا “نبرم” القاهرة من شرقها إلى غربها “برما”، ثم نتوقف لنأخذ الجرعة المعتادة من فيروس C من حواوشي “رغيف الأمير” ذو الثلاثة جنيهات والنصف الكائن بميدان سفير، قبل أن يغلقوه للمرة الألف بعد اختفاء كل الكلاب والقطط الضالة في محيط المنطقة، أو من طواجن أبو طارق العامرة بما لذ و طاب من مكرونة يطفو على سطحها ما يطلق عليه زوراً لحمة، مع تشكيلة من مختلف أنواع الفيروسات قبل أن يظهر اللواء عبد العاطي -سامحه الله- ليحرمنا من تلك المتعة.
أجد صعوبة حقيقية في تذكر أسماء أطفالهم مما قد يغضبهم منى في معظم الأوقات، وكيف لي أن أصم أسماء ما يربو من مئة طفل، كلهم بلا استثناء يحملون نفس الملاح البريئة الشقية، خصوصاً أن معظمهم لم أراهم ولو لمرة واحدة على أرض الواقع، وربما لم أحضر حفلات زفاف آباءهم أيضا، فشخص مثلي ترك موطنه الأصلي مرتان أو يزيد، فاته الكثير من المناسبات السعيدة لأصدقاء لم نكن نتخيل يوماً ولا الفرحة ولا الحياة نفسها دون أحدنا، ربما كان هذا هو السبب الذي جعلني أعزف عن فكرة إنجاب الأطفال مع أنّ عامي الرابع للزواج فزعاً من فكرة الغرق في دوامة الحياة أكثر وأكثر. لا أريد أن أكبر أكثر من ذلك، لا أريد أن أصبح مجرد عائل للأطفال يدور في ساقية بلا حياة لتنحصر كل تطلعاتي في البطيخة والجرنال الذين سأعود بهما إلى المنزل بعد نهاية يوم عمل شاق. نوستالجيا الذكريات تقهرني وتكاد أن تصيبني بالجنون.
أضبط نفسى خُلْسَة متلبساً بتصفح صور ذكريات الماضي، قبل أن تتمكن منى الذكريات نفسها وتصرعني حزناً على رحيلها، فأنطلق بلا توقف كقطار اليابان السريع في عاصفة هوجاء لأقص على زوجتي الكثير عن ذكريات الكلية والشقاوة والأيام الحلوة، قبل أن يصيبها الملل وأكتشف أنها تغط في سبات عميق منذ ساعة على الأقل لتتركني أحكي لنفسي الكثير والكثير.
أفتح صفحة الفيسبوك لأهنئ صديقتي بمولودها الثاني وأتعجب، فقد كنت في الأسبوع الماضي أحاول جاهداً أن أحصل على رقم هاتفها المحمول وهي تتمنع في دلال واضح، ثم أتذكر أن تلك الواقعة كانت منذ خمسة عشر عاماً أو يزيد.
عندما تركت مدينتي الصغيرة للمرة الأولى منذ ما يقرب من عشر سنوات للعمل في قاهرة المعز، كان الشهر الذي يفصلني عن رؤية أصدقائي يصيبني بالجنون، أما الآن فتمر الأيام والشهور بل والسنوات بسرعة لا أدركها، قبل أن أرى أحدهم مصادفة في مناسبة تجمعنا سوياً، نتلاقى فقط عبر رسائل الفيسبوك الجافة بلا روح، حتى مكالمات الـ”سكايب” والـ”فيس تايم” أصبحت شحيحة، ربما لأنه لم يعد هناك ما يمكن أن نقوله سوياً، فلم يعد هناك إلا ديباجة الأسئلة المتكررة عن الصحة والأحوال، أسمع خبر زفاف أحدهم فلا أفرح، ثم أسمع خبر وفاة أحدهم فلا أنزعج، فقد ولت أيام الصعلكة والشقاوة بلا رجعة، وحل محلها الهموم وتكالبت علينا المواجع، وخط الشيب الأفئدة قبل الأفواد، وشعيرات الذقن المتناثرة المهملة بجراءة يحسد عليها، بعد أن كان يفعل ذلك خجلاً في السنوات القليلة الماضية، وأصبحت الكروش الممتلئة الصفة المميزة لمعظمنا، بعدما صارت حركتنا محدودة، وصارت معظم نقاشاتنا على الفيسبوك تتمحور حول نجاح أحدنا في شراء شقة تمليك “لقطة”، أو كيفية الحصول على سيارة جيدة بسعر معقول، بعد أن كانت نقاشاتنا السابقة ﻻ تنتهي حول الليبرالية والعدالة الانتقالية والديموقراطية، والأحلام الكبرى والمشروعات الضخمة.
أتذكر رفاق الثورة الخمسة عندما كنا نتلاقى على شط النيل في أسيوط في جلسات العصف الذهني والمناقشات السياسية التي لا نكل منها ولا نشبع، نتخاطف أكواب الأرز باللبن والكريم كراميل من عند “ألبان النيل”، بينما نستمع بشغف ونهم لهشام الجخ ساخراً من مبارك و”طينه” التي أكلها الدود، فنضحك حتى تدمع أعيننا، رأينا حلمنا بالثورة على النظام يتحول إلى حقيقة. قبل أن ينسل سريعاً من بين أيدينا كدخان فتيل شمعة أنطفأ لتوه.
هؤلاء الخمسة هاجر أحدهم إلى كندا والآخر إلى أستراليا قبل أن يتمكن منه الاكتئاب والإحباط ويصير “فلاً” بجدارة، والثالث إلى أمريكا، فلم يتبقى منهم إلا اثنان أصرا على التشبث بتراب الوطن، مع يقين لديّ أن إصرارهما هذا لن يصمد كثيراً، بعد أن تكالب علينا الإحباط و تمكن منا جميعاً.
أتذكر رفاق دفعة هندسة اتصالات السبعة، يوم أن كنا نعقد جلسات الفول والطعمية بالسلطة في بيت أحدنا بعد صدمة امتحان الـ”ماجنيتك فيلد”، أو بعد وصلة تعذيب امتحان الـDSP الشفوي، لنتخاطف أقراص الطعمية المشبعة بزيت التربانتين خطفاً، بعد أن نمسح طبق الفول بالعيش البلدي ليصير الطبق كالمرأة، ثم نعقد قرعة مستخدمين عملة فضية على آخر عود بصل أخضر فيغافلنا أكثرنا جوعاً ويلتهمه دفعة واحدة، قبل أن نصاب جميعاً بـ “كريزة” ضحك متواصل.
هؤلاء السبعة هاجر أحدهم إلى استراليا، والثاني إلى قبرص، والثالث إلى إيطاليا (ترك مصر قبل امتحان البكالوريوس بشهور قليلة)، والرابع معي في نفس الدولة العربية لا أراه أكثر من مرة واحدة في الشهر تقريباً، والسادس هاجر إلى كندا منذ أسبوع واحد، ليتبقى الأخير في القاهرة يسعى بكل قوة للهجرة في أقرب وقت،
أتذكر معاناة شهر مشروع التخرج، والسهر في الكلية حتى مطلع الفجر، والنوم بعمق نحسد عليه على كراسي المعمل الصلبة الباردة، وتلال الشاي والقهوة السادة التي أفنيناها في سبيل العلم، ومحاولاتي الفاشلة للامساك بتلك الأيام السريعة بلا جدوى، فتسلل الابتسامة رغماً عنى إلى شفتاي.
أتذكر رفاق أسرة الكلية، والسعي الدائم والدؤوب للتعرف على أكبر عدد ممكن من البنات، ومكالمات التليفون بالساعات، والدردشة على الماسنجر حتى مطلع الفجر، وقصص الحب الرومانسية البريئة التي مررت بها، وعايشتها بين الرفاق، وسمعت بها خُلْسَة عنهم، ما انتهى منها بالزواج، وما انتهى منها بالانفصال والألم والانكسار، والرحلات و الأنشطة والأيام الرياضية وملحمة حفلات التخرج السنوية، ومساعدة رفاق الدفعات الأكبر في مشروعات تخرجهم.
قلة من استطاع الحفاظ على ما تبقى لنا من صداقة تستند إلى سنوات طويلة من العشرة والعيش والملح والكثير من ساندويتشات كافيتيريا هندسة العريقة، أما الكثيرون فتفرقوا وحلت الخلافات والمنازعات بينهم.
في المرة الأخيرة التي ذهبت فيها إلى الكلية لاستخراج بعض الأوراق قبيل هجرتي للخارج، تأملت ساحة الكلية، والشجرة العريقة التي تواجه “قسم كهرباء” التي كنا نجلس تحت ظلال فروعها، وأسمائنا المحفورة على جذعها حتى يومنا هذا، ثم انتحيت جانباً وبكيت بحرقة غير مبالٍ بنظرات المارة على الأيام الجميلة التي ولّت بسرعة وبغير رجعة، قبل أن يتناهى إلى مسامعي صوت أحد الطلاب وهو يغازل إحداهن وهي تتمنع في دلال مفتعل، مستخدماً نفس المفردات والطريقة التي كنت أستخدمها منذ خمسة عشر عاما تقريباً، ابتسمت رغما مني ومن دموعي المنهمرة، وذهبت مغادراً دون أن أنظر إلى الخلف.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤