أغسطس 1995: تنعي الصحف المصرية 17 طالباً جامعياً غرقوا بأحد الشواطئ. غرقوا جميعاً واحداً تلو الآخر وهم في محاولة لإنقاذ بعضهم البعض، وتم انتشال جثث أغلبهم ومازال البعض مفقود.

بنفس العام وبنفس الشاطئ، جلست على الرمال أبني قصوراً رملية غير متقنة بالمرة. لكن لا بأس بها بالنسبة لطفلة أتمت العاشرة منذ بضعة أشهر. كنت دائما منذ نعومة أظافري أحاول أن أكون دقيقة في أبسط ألعابي، حتى وأن كانت عبارة عن مطبخ وهمي على رمال الشاطئ، أقلي بداخله أقراص الطعمية التي أعدها بنفسي بخلطة دقيقة المقادير من الرمال وماء البحر، بحيث تكون متماسكة، إلى أن ألقيها في مقلاتي الوهمية المليئة بماء البحر وتذوب بلا رجعة. لكن ذلك الصيف فقدت مهارتي في صناعة أيا من ألعابي الصيفية المحببة على الشاطئ. كان خيالي لا ينتج إلا صورة واحدة: أن أسبح بالبحر وأرجلي تلمس جمجمة أحد الغرقى الذين لم ينتشلوا جثثهم بعد. وكانت تلك الصورة كفيلة أن أقضى ذلك الصيف أعبث برمال الشاطئ في غضب، وكلما حاولت أن أقترب من الماء شيئا فشيئا، وبمجرد ما أن تلمس أرجلي أي شيء، ولو مجرد حصاة صغيرة، كنت أهلع، وأجرى، وأجلس على الرمال من جديد.

لم يقم أحد بطمأنتي، بل جلسوا تحت الشماسي يتناقلون أخبار غرقى هذا العام بنفس الشاطئ. ولسوء حظي، شاهدت بعيني عملية انتشال غريق. مرت العطلة الصيفية وأنا أحاول التغلب على خوفي مراراً وتكراراً. تغلبت عليها بالعام التالي ولم تمنعني تلك الواقعة في المستقبل من نزول البحر فأنا سباحة ماهرة ولكن حتى الآن، وقد تجاوزت منتصف الثلاثينيات، دائما ما أسبح في العمق حتى لا تلمس أرجلي الأرض. مازلت أخشى اليوم الذي تتحقق فيه مخاوفي وألمس جمجمة أحدهم.

اليوم، وقد جاوزت منتصف الثلاثينيات من عمري، مازلت أكره الخوف! لا أشاهد أفلام الرعب ولا أرتاد الملاهي أبدا. لا أجد سببا منطقيا أبدا في أن أصيب نفسي بالهلع بنفسي، أو أن أدفع نفسي للخوف كنوع من أنواع المتعة، أؤمن بالخوف الصحي الذي يدفعنا أن ننظر في كل الاتجاهات قبل عبور الشارع، ذلك الخوف الذي يجعلنا نتأكد من مفاتيح الغاز كل ليلة قبل النوم. لكني أخشى الخوف السلبي الذي يجعلنا نخشى المستقبل والمجازفة ويؤدى بينا إلى الأرق والاكتئاب، وأخشاه أكثر حين يكون مُصنع ومُعد جيداً لإرهابي. الخوف المُصنع هنا لا أقصده به قطارات الموت وبيوت الرعب في الملاهي فبالنهاية هدفها الحصول على بعض من المتعة عن طريق جرعات الأدرينالين، ولكني هنا أتحدث عن وسائل الإعلام المختلفة عن طريق الـ”تريند”ـات.

بعد زلزال تركيا وسوريا أصبح الزلازل “تريند” على جميع محركات البحث، بالتالي جميع وسائل الإعلام المقروءة والمرئية التي تزاحمت على إيجاد مكان مناسب داخل التريند ليس لسويعات قليلة بل لأيام. مئات الإشعارات كانت تصلني يومياً تبشرني بزلزال مدمر يضرب مصر قريبا وتسونامي يبتلع الإسكندرية، ومع كل هزة أرضية صغيرة، مئات الإشعارات تصلني تباعاً إلى جانب بوستات الفيسبوك المليئة بالهلع والترقب المعاد مشاركتها من الصفحات الإخبارية بطريقة هستيرية تذكرني بجملة الفنان “أحمد بدير” الشهيرة في فيلم “بطل من ورق”، حين قالها وهو يضحك من الخوف: “هنموت كلنا”.

وبما أني لا أميل لثقافة الخوف والموت مثل أفلام الرعب والملاهي، ابتعدت عن جميع وسائل التواصل الاجتماعي، لأني أريد أن أعيش الحياة لا أن أخافها، الخوف هو حالة طبيعية وبيولوجية نمر بها جميعًا، وشعور إنساني معقد يمكن أن يكون إيجابيًا وصحيًا، ولكن يمكن أن يكون أيضًا سلبياً، وللأسف أصبح صناعة ومنتج يدر الربح لمروجيه. فصفحات الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي تجني المال عن طريق هلعك، فلا مانع من صياغة عنوان الخبر بألف طريقة مخيفة ومفزعة حتى يجذبك -بالخوف- لتصفح محتواه. لا يهمهم جهازك العصبي الذي أصبح يئن ويطلب المساعدة، وبدلا من معالجة مخاوفك شاركتها مع الآخرين فتسببت بالرعب لمتابعيك وهم بالتالي فعلوا بالمثل، حلقة كبيرة مفرغة لا تصب إلا في مصلحة صناع الخبر أو صناع الخوف.

أكثر المتضررين في تلك الحلقة هم الأطفال الذين يراقبون مخاوف الكبار ويتعاملون معها، مع أنه يجب أن تكون أكبر مخاوفهم هي فقدانهم لألعابهم أو مصروفهم اليومي.، لا الزلازل ولا حتى أسعار “البانية”.

دورك أن تطمأن أطفالك أنهم سوف يكونوا بخير وأن لا داعي للخوف. أتذكر في يناير 1997 و أنا بعمر الثانية عشر، وقع زلزال حين كنت ببيت جدتي بحي الظاهر الشهير ببناياته القديمة، وقتها، أخذتني جدتي تحت الطاولة واحتضنتني وأخذت تهدئ من روعي وتخبرني ألا أخاف، وأننا تحت الطاولة للحرص ليس أكثر.
ومن حبي لها صدقتها حتى اليوم. لذلك لا أخشى الزلازل و لا يهمني أخبارها.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟