قد تصادف يوما ممن يتم تصنيفه بأنه يوم سوء الحظ، فحين تذهب إلى المحطة وتجد الأوتوبيس أو القطار قد غادر على الفور، أو تكون في طريقك متعجلا للذهاب للعمل وتجد زحام مروري، أو تذهب لإنهاء بعض الأوراق في إحدى المصالح الحكومية وتجد أنك قد وصلت في وقت انتهاء دوام العمل حيث لا توجد مواعيد واضحة وثابتة لكل المصالح الحكومية، وهكذا، هذه الأمور المعاكسة لَمَّا نرد تحدث مع أغلبنا من حين لأخر، وقد يجد الإنسان نفسه ينفجر في موجة من الغضب الشديد بعد أحد تلك المواقف، ويوجه اللوم إلى الله وسؤال: لماذا يحدث هذا معي؟
قد يعتقد كل شخص منا أن سوء الحظ الذي يصادفه في يوم ما أو أحد المواقف هو أمر يحدث معه هو فقط، لكن الحقيقي أن هذا يحدث مع الجميع، وحسب قوانين مورفي الخاصة بسوء الحظ فدائما ما تحدث تلك المواقف عندما تكون في حاجة لعدم حدوثها، فعندما تتأخر عن العمل ستجد الطريق مزدحما، فتغضب وتثور، حين كنت طفلا كنت أفعل كما يفعل أغلبنا وأوجه اللوم إلى الله باعتباره المسؤول عما يحدث لنا، كما تربينا وتعودنا أن نسمع منذ الصغر في مؤسسة التربية والتنشئة المختلفة.
لكن فعلا هل الله مسؤول عن خروجي متأخرا من المنزل للعمل وأنا أسكن في مدينة مليونية مكتظة بالسكان والسيارات والعشوائية ومن الطبيعي أن يكون بها زحاما وقت الذروة؟ فلماذا أعلق نتائج تصرفاتي وممارساتي على “شماعة” مسؤولية الله عما يحدث في حياتي، وكأنه ليس دخل لي في هذا.
ذكرت هذا المثال لأذهب إلى نقطة أبعد مرتبطة بالألم والمرض والحروب ووجود الشر في العالم، فهل الله مسؤول عنهم؟ كما يروج بعض رجال الدين من مختلف الأديان، أو بعض الإكليروس ملء السمع والبصر في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، كما حدث ذلك مع انتشار فيروس كورونا مطلع عام 2020، والترويج في خطاب تغيبي بأنه عقاب من الله!
أتفهم جيدا ترويج هذا الخطاب على السادة المؤمنين من قبل بعض رجال الدين، فهذا الخطاب هو ركن أساسي ومهم للسيطرة على “قطيع” المؤمنين، فلا يمكن حدوث ذلك دون سلبهم حريتهم وإرادتهم الإنسانية الحرة في الاختيار وتحمل مسؤولية اختياراتهم، بل جعلهم مسلوبي الإرادة بترويج الحديث عن مسؤولية الله عن الألم والشر وعن تحكمه تماما في مصائرنا وتصرفاتنا عكس ما يروج من خطاب ديني بأنه في نهاية الحياة هناك حساب لكل إنسان عما فعله طوال حياته، فكيف يمكن محاسبة شخص لم حرا في اختياراته؟ وكيف يمكن محاسبة شخص قرر الله ألا ينتظر لنهاية حياته وأن يعاقبه بشكل سريع وواضح على الأرض وابتلائه بفيروس مثل كورونا؟
إن إلغاء إرادة الإنسان في اختيار ما يخص حياته وأن يتحمل مسؤولية اختياراته هو لشر عظيم يسلب البشر أعز ما يملكون ويقودهم جميعا للعبودية، والتراخي والتواكل بأنهم مغلوب على أمرهم فيرضون بواقعهم المرير ولا يحاولون تغييره باعتباره ابتلاءا من الله، وهنا يحضرني فصل “المفتش الكبير”، من رواية الإخوة كارامازوف للأديب الروسي فيودور دوستويفسكي، ففي هذا الفصل حكى قصة من أروع ما كتب على لسان شخصية “إيفان” الملحد.
ويحكي أن السيد المسيح ظهر وقت محاكم التفتيش في إحدى الكنائس فدخل عليه البابا كبير المفتشين وأمر بالقبض عليه، وبعد سرد رائع لمعنى التجارِب على الجبل، وأن المسيح أراد أن يكون الإنسان حرا فلم يجر المعجزات التي طلبت منه بأن يحول الحجارة إلى خبز أو يقفز من فوق الهيكل، حتى يحافظ على حرية الإنسان، وأن يأتي لأنه حرا وليس لأنه أطعمه أو جذبه بالمعجزات، جاء الكلام الأخير على لسان كبير المفتشين وهو يصرف المسيح متوعده بالقتل إذا ظهر مرة أخرى لأنهم -أي رجال الدين- أجروا المعجزات وأطعموا القطيع حتى سيطروا عليهم ولا يريد أن يتغير هذا الوضع.
هذا الفكر الذي يروجه بعض الإكليروس اليوم، بإلغاء إرادة الإنسان لمصلحتهم بدعوى أن الله يتحكم في كل شيء واجهه أيضًا، الأديب البرازيلي باولو كويلهو في رواية “الجبل الخامس” التي تتحدث عن إيليا نبي العهد القديم الذي حسب الرواية ظل ينتظر إشارات الله وقراراته، حتى سقطت المدينة في يد الأعداء وماتت الأرملة التي يحبها، فوجه جم غضبه إلى الله الذي تركه، فظهر له ملاك لـ”يفطمه” كما الرضيع من هذا التصور الساذج بأن الله سيتدخل ويغير الأحداث، ليخبره أن الله يتدخل من خلاله، وأنه يجب أن يتحرك ويتصرف هو وما سيفعله سيرضي الله.
أعتقد أنه آن الأوان لأن يتم فطام الخطاب الديني الذي يلغي الإنسان وإرادته ومسؤوليته عن أفعاله، لأن تأثيره قاتل على مستقبل الإنسانية وعلى مجتمعنا الغارق في التواكل واللامبالاة وتبرير الشر بأنه ابتلاء من الله أو وسوسة شيطان.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.