بما إن البعض قد ظن إنني أسخر من نقاوة قلقاسهم واستقامة إيمان زعزوعة قصبهم حين قلت إنهم اتخذوا من القصب والقلقاس "Idols" من دون صاحب العيد، وحيث أن معلمون آخرون قد اعتلوا المنبر واتخذوا من طبخة القلقاس لاهوتاً غير المعلوم لدينا وأشرك -والعياذ بالله- بعضهم بالبلح والجوافة والشموع في التقليد والتسليم الرسولي حتى اختلط القصب بالجوافة والبلح وأصبح كـ"فخفينا فرغلي"، وألف الهواة قصص وتأملات عظيمة حول القلقاس على النحو المنشور على الميديا، فقررت أنا أيضًا حيث كثر الهري تكثر المعرفة، أن أحكي بإيجاز قصة عيد الغطاس, فطرطق ودنك واسمع حكاية عيد الغطاس.
كان في أيام الدولة الإخشيدية حكام متسامحون دينياً، كانوا هم أول من جعلوا مناسبة عيد الغطاس كأول عيد قومي مسيحي مصري تحتفل به الدولة الإسلامية وحكامها وشعبها معاً بكل طوائفهم المسيحيين (يعاقبة وملكانيين) والمسلمين (سنة وشيعة) وكان الاحتفال يستمر لبضعة أيام في كافة ديار مصر ولا سيما حول نهر النيل في القاهرة حتى إن المؤرخين مثل المقريزي والمسعودي وصفوه بأنه عيد ذو شأن عظيم جداً في مصر، وأن ليلة الغطاس تلك “ليلة لا ينام فيها أحد بمصر!”.
عيد الغطاس كان أهم وأكثر شعبية من عيد الميلاد من حيث الاحتفال به، كانت تضاء قصور الحاكم والأمراء وأعيان البلاد وتزين الشوارع بالمشاعل وبالأنوار وتقام فيه الولائم الجماعية على شاطئ النيل وكان يتبارى الناس في إظهار تنوع وفخامة موائدهم.
القلقاس والقصب كانوا جزءاً بسيطاً جداً من ضمن الأكلات المشهورة في عيد الغطاس، فكان يتم توزيع الحَلْوَيَات والزلابية والجلاب (قمع قصب السكر) والسمك والبوري وعصير الليمون واللحم الضاني وغيره على المحتفلين وطبعاً -مش ببلاش- كان يتم بمقابل رسوم (مينيمم تشارج) يدفعوها ومن ثم يأكلون ويشربون (حاجة زي all you can eat buffet)
أول من أدخل عادة أكل القصب في الغطاس هم الفاطميون، من المعروف عن الفاطميون إنهم كانوا يحبون الموالد والاحتفالات والمهرجانات، واحتفلوا بموالد وأعياد كثيرة بمصر منها عيد النحر (الأضحى) رأس السنة الهجرية واحتفالات النيروز وخميس العدس (العهد)، من الأخر كانوا ناس بيحبوا الـ Have Fun
عيد الغطاس كان أشبه بمهرجان قومي كبير شبيه بالمهرجانات الأوروبية والأسيوية حاليا (مهرجان الألوان في إسبانيا والديوالي في الهند)، وكانت تقام مسيرات دينية بالألحان والتراتيل من الكنائس (الأقباط الأرثوذكس) مكونة من كهنة وشعب وبعض الرهبان بالشموع والمشاعل والأنوار ويحمل الأطفال الشموع وينشدوا الأناشيد ومن اشهرها (يا بلابيصا.. يا بلابيصا ) وهي في الأصل تنطق (بلامبيصا) من اللغة القبطية (بي لامباس) وهي كلمة تعني (النور أو الشموع) لذلك يطلق على العيد أيضا اسم عيد الأنوار (الإبيفانيا) ثم يتوقفون عند النهر، ويبدأون بالصلوات ثم يغطسون ليلا في النهر ويحتفلوا بالمأكل والمشرب وبعدها يعودون إلى الكنائس بنفس المسيرات أو ينصرفوا إلى منازلهم.
ما زالت عادات واحتفالات عيد الغطاس معروفة في قرى كثيرة في شمال وجنوب مصر وفي النوبة حتى اليوم، كان الملكانيين (الروم) يؤدون نفس المسيرات من كنيسة القديس ميخائيل بقصر الشمع في نفس اليوم ويشاركون الجميع الاحتفالات، واشترك معظم الحكام الإخشيديون والفاطميون في الاحتفال وكانوا يحضرون الاحتفال بأنفسهم في قصورهم التي شيدت على شاطئ النيل وأخذت الاحتفالات في التأرجح بين الحكام الفاطميين حسب أهوائهم.
المعز لدين الله الفاطمي بالرغم من علاقته الجيدة جداً بالمسيحيين فإنه ألغى حضور الحاكم لاحتفالات عيد الغطاس حتى يكسب ود المتشددين ولكي يظهر وكأنه غير متساهل أو متسامح مع المسيحيين، لكن عندما تولى ابنه (العزيز بالله) أعاد عادة حضور الحاكم مرة أخرى للاحتفالات، بعد وفاته تولى (أغتت خلق الله) المعروف باسم الحاكم بأمر الله وفي البداية كان يحتفل به ثم انقلب وبدأ في اضطهاد عظيم على الأقباط فألغى كل مظاهر الاحتفالات الرسمية وحضور الحاكم تماماً ومنع إقامتها.
راح الحاكم بأمر الله وتولى ابنه الخليفة أبو الحسن علي ابن الحاكم بأمر الله منصور الشهير بالظاهر لإعزاز دين الله، وهو الذي أمر بإعادة الاحتفالات وكان ينزل مع حريمه في قصره على النيل ويشاهد الاحتفالات دون مشاركة فعلية منه وهو أول من أمر ومنع اختلاط المسلمين مع المسيحيين في نزول النهر ليغطسوا سوياً.
ظلت الاحتفالات تتم بصورة شعبية ورسمية حتى وصل المماليك للحكم وقفلوها بالضبة والمفتاح ومنعوا الاحتفالات الرسمية وغير الرسمية نهائياً يا مؤمن! وسكتم بكتم، وتروح الأيام و تيجي الأيام ولا يظل من الاحتفالات الشعبية غير القلقاس والقصب فنتأمل فيهم ونعمل بوستات وننشرها على النت وتقول للناس إنه تقليد رسولي، و”استلمناها كده من الرسل وهنسلمها كده” ويطلع الأنبا زوسيما أسقف أطفيح في برنامَج إيماننا الاقدس على مي سات قبل ما يتم إيقافه محذراً أي هرطوقي من التلاعب بالثوابت الإيمانية للقلقاس ومنذراً أي منحرف من العبث بعقيدة القصب.
أخيراً يوم من الأيام كان في عيد المصريين كلهم بكل أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم كانوا يجتمعون معًا ويحتفلون به ولم يتبق عيد مصري أصيل مئة بالمئة يحتفل به المصريين حاليا سوى شم النسيم.
ولا تنسوا كما قال جنابه: في القلقاس مادة هلامية لزجة سامة إلا إذا اختلطت بالماء صارت ماده نافعة ومفيدة
المصادر
– المسعودي، مروج الذهب
– المواعظ والاعتبار، المقريزي، ج2 (وصف الأعياد التي احتفل بها الفاطميين في مصر) الرابط:
https://al-maktaba.org/book/11566/903#p2
– جاك تاجر، أقباط ومسلمون.
https://bit.ly/2NLjNTF
– الكنيسة القبطية تحت حكم الفاطميين
http://coptcatholic.net/p8692/
– فاروق عطية، ، الأقباط و الدولة الفاطمية ج1، الحوار المتمدن
http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=618978&r=0
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟