منذ أكثر من ألفيّ عام، شرع بعض اليهود في التفكير في ال على أنها وسيلة لنقل حقيقة كونية ثابتة، وبالطبع، اختلف اليهود القدامى حول هذه الطريقة الجديدة في رؤية التوراة، وما زالت أصداء عواقب هذا النقاش تتردد إلى يومنا هذا. فلماذا ومتى بدأ بعض اليهود يفكرون في التوراة على أنها حقيقة ثابتة لا تتغير، ومتى ولماذا قاوم الآخرون؟
كيف بدأ الوحي؟

على مدار التاريخ، كانت هناك رؤيتان متناقضتان للغاية بخصوص الوحي: الأولى نشأت في اليونان، والثانية في إسرائيل التوراتية.  ومنذ حوالي 2300 عام، تصارعت هاتان الرؤيتان على الصدارة، حتى إن مفهومنا عن الوحي اليوم لا يزال محكوما بهذا الصراع.

يمكن وصف القانون الإلهي باعتباره مجموعة المعايير التي توجّه السلوك البشري، التي يجب أن تكون مرتبطة بطريقة ما بالإله أو متجذرة بطريقة ما في العالم الإلهي، وهذه فكرة مشتركة بين اليهودية، والمسيحية، والإسلام. ولكن، هذه الفكرة ليست حتمية؛ فهذه فكرة لن تجدها حقًا في الثقافة الصينية مثلا؛ ولن تجدها كذلك في ثقافات القديم، فالآلهة كانت تمنح الملوك والحكام الحكمة ومبادئ العدالة، لكنهم كتبوا قوانين حمورابي بطريقتهم الخاصة، أليس كذلك؟

المفهوم الجامد للوحي بوصفه قوانين معطاه من الإله مباشرة، ظهر أول مرة عند قدماء اليونانيين، ثم في الكتاب المقدس العبري ولكن بشكل مختلف تمامًا. وهنا حقًا تبدأ قصتنا.

الوحي عند قدماء اليونانيين (الإغريق)

اعتبر فلاسفة اليونان القانون الطبيعي إلهيًا لأنه يعبر عن الإطار الثابت والهيكلي لنظام الطبيعة، وأول من استخدم لفظة الوحي هم (Stoics) الرواقيون، مجموعة من الفلاسفة اليونانيين، ويمكننا أن نخص الفيلسوف “أوستن” بالذكر في إشارته إلى القانون الطبيعي.

لقد فهم هؤلاء أن الوحي هو نظام عقلاني، لا يتجزأ من العالم الطبيعي، والطبيعة البشرية، ويحكمهما. وكان هذا المفهوم ثوريا في ذلك الوقت؛ لأن في ذلك الحين، كان الاعتقاد السائد أن الطبيعة فوضوية ووحشية، وتستلزم الحضارة لإنقاذ البشر من شرها. أما الرواقيون فقد رفضوا فوضوية الطبيعة، وأقروا بوجود نظام يحكم الطبيعة، وبالنسبة لهم، كان الله والطبيعة كيانا واحدا. بالتالي، فإن النظام العقلاني المتأصل في الأنماط التي تحكم الطبيعة والأنماط التي يدركها الإنسان هو النظام العقلاني لله نفسه. وبما أن الطبيعة هي الله والله هو الطبيعة، فالقانون الإلهي كان بالنسبة لهم قانونا غير مكتوب.

حين كتب النظرية الرواقية الكلاسيكية للقانون الطبيعي أو الإلهي قال بأنّ القانون الإلهي طبيعي، بالتالي فهو موجود بين الجميع بشكل ثابت ودائم، كقانون الجاذبية على سبيل المثال، الذي لا يقدر أحد على تعديله أو إلغاؤه. ثم أن القانون أبدي، غير قابل للتغيير، ويصلح لجميع الشعوب في جميع الأوقات. لذلك بالنسبة للرواقيين، القانون الإلهي: ١- منطقي، ٢- طبيعي، ٣- غير مكتوب.

إن الوحي، عند اليونانيين، هو قانون يجب أن ينطبق على الجميع، وهو الكمال التام. لذلك، فمن شروطه أن يكون غير مكتوب؛ إنه ليس مجموعة من القواعد أو التشريعات المنقولة عبر الكلمات أو العبارات، إنه الترتيب العقلاني للكون نفسه (Logos)، وإتباع القانون الطبيعي الإلهي المضمّن في الطبيعة يمكن أن يقود البشر إلى الفضيلة الحقيقية والسعادة.

واعتقد الإغريق أنه مثلما يوجد القانون الإلهي، يوجد أيضا القانون البشري. وفصلوا بينهما (سنرى لاحقا أن الكتاب المقدس لا يفعل ذلك). لذا فمن ناحية، هناك القانون الطبيعي الإلهي المستقل عن القانون الوضعي البشري.

إن قوانين المجتمعات البشرية تخلق قواعد ومحظورات ملموسة فعلية، تخبرك بالتوقف عند الضوء الأحمر على سبيل المثال، وإلا ستدفع غرامة. تلك هي القوانين البشرية التي تم تدوينها في صورة كلمات، وجمل، ليتم فرضها من خلال القانون الوضعي للسلطة القسرية. تلك القوانين ليست طبيعية وهي عرضة للتغيير مع مرور الوقت، وهي لا تعكس بالضرورة الحقيقة أو الواقع الطبيعي للكون. فنحن نتوقف عند الأضواء الحمراء ﻻ لشيء سوى كونها (Social Convention) اتفاقية جماعية اتفق البشر على القيام بها ، ولكن، لا يوجد شيء منطقي متأصل في الإنسان يجعله يتوقف عند رؤية اللون الأحمر.

أكد الرواقيون على أهمية مطابقة سلوكهم مع النظام الطبيعي دون الحاجة إلى قوانين الدولة الوضعية المزعجة، فإدراك الشكل المثالي للعدالة يعتمد على إدراك النظام العقلاني للطبيعة، الذي يمكن أن يقودنا إلى الفضيلة، فهذه القوانين المكتوبة تجبرنا على الطاعة، وهذه ليست الفضيلة الحقيقية. لذلك، قال إن الحل يكمن في الثقافة والكمال العقلاني. إذا قابلت فيلسوفًا يونانيًا قديمًا وسألته: “ما هو الوحي الإلهي؟” سيجيبك إن الوحي يعتمد على عدة صفات كامنة فيه: فهو المنطق والعقلانية الحقيقية الصالحة لجميع البشر بلا تغيير.

اليهودية: مفهوم مختلف للوحي

على النقيض من ذلك، نجد في التقليد الكتابي للكتاب المقدس العبري أن القانون يعد إلهيا ليس بحكم أي صفات جوهرية فيه، ولكن لأنه فقط قد أنزله الله؛ فهو ينبع من إله هو سيد التاريخ في الكتاب المقدس. باختصار، إن الوحي يأخذ قوته ﻻ لشيئ سوى كونه أمرا أقره الله. أي أنه ليس تعبيرًا عن العقل الطبيعي، بل مجموعة من التشريعات الفعلية، وضعت في سيناء، وأعطاها الله في صورة كلمات، وقوانين، ووصايا ملموسة. نحن لا نتكلم فقط عن الوصايا العشر ولكن عن مجموعة كاملة من القوانين حول كل شيء من الطلاق إلى قوانين الوصاية والسرقة وما إلى ذلك، لذا فهي وصايا فعلية وفقًا للقصة التوراتية.

لقد ذهب موسى وكرر للناس أوامر الرب جميعها، وأجاب جميع الناس بصوت واحد قائلين إن كل الأشياء التي أمر بها الرب ستنفذ. ودون موسى أوامر الرب. ولأول مرة في التاريخ، نجد إلها يعطي قانونًا فعليًا يفصل بين الأبيض والأسود، قانونًا بالحروف السوداء المنقوشة بإصبع الله. ولم يحدث في الشرق الأدنى القديم، ولا في أي مكان آخر، أن يعطي الإله قانونًا هكذا.

على عكس الوحي الصالح لجميع البشر، يقدم العقد القديم وحيا خاص بجماعة معينة من البشر (بنو إسرائيل) بهدف تمييزهم وفصلهم عن باقي الشعوب. وهو إلى ذلك يحتوي على نوع من القوانين التمييزية أو غير المنطقية بشكل خاص: قوانين لا يتم ملاحظتها طبيعيا. وهي أيضا قابلة للتغيير؛ لأن فعل الإرادة الإلهي يمكن تغييره بأفعال لاحقة. وهكذا في القصة التوراتية، هناك قواعد ومراسيم جديدة يتم إصدارها كل يوم، فنجد موسى يسأل الله مرات عدّة عما يجب أن يفعله. فهو يجمع الحطب ويوم السبت لا يعرف ماذا سيفعل؟ كيف يكون التصرف إزاء الفقراء في على سبيل المثال؟ لذلك، يعود موسى مرارًا وتكرارًا إلى معطي القانون وهو يجيبه.

وهناك حاجة إلى قواعد جديدة في بعض الأحيان؛ على سبيل المثال، في سفر التثنية إصحاح 12، يخبر الله الإسرائيليين أنهم على وشك دخول الأرض، وهناك، ستكون الأمور مختلفة بعض الشيء عن المعتاد. لذلك، يجب عليهم تقديم الذبيحة في مكان واحد فقط. وفي تثنية 17، يخبرهم الله أنه سيأتي يوم يحتاجون فيه إلى ملك، بالتالي سيضع الله قوانينا جديدة ليتبعها هذا الملك. وفي سفر العدد 27، تأتي بنات إلى موسى، ويطلبن منه ميراث أبيهن؛ لأنه من الظلم حقًا أن تذهب ممتلكات الرجل إلى إخوته إذا مات وليس له ابن. فوضع موسى دعواهن أمام الرب ليرى ماذا سيقول الرب. ويقول الرب لموسى: أتعلم يا عزيزي موسى لقد رأيت أن الفتيات على حق، فلما لا نغير القانون وفقا لرؤيتهن؟ هذه فكرة جيدة يجب عليك تدوينها يا موسى في القانون الإلهي، ولنفعل كما قالت الفتيات من الْآنَ فصاعدا!

“بِحَقّ تَكَلَّمَتْ بَنَاتُ صَلُفْحَادَ، فَتُعْطِيهِنَّ مُلْكَ نَصِيبٍ بَيْنَ إِخْوَةِ أَبِيهنَّ، وَتَنْقُلُ نَصِيبَ أَبِيهِنَّ إِلَيْهِنَّ. وَتُكَلِّمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلًا: أَيُّمَا رَجُل مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ، تَنْقُلُونَ مُلْكَهُ إِلَى ابْنَتِهِ.”

(سفر العدد ٢٧: ٧-٨)

فإن القانون الإلهي يخضع للتغيير عبر الزمن التاريخي حيث تنشأ الظروف. وبعض الوصايا ليست طبيعية في جوهرها، فالشعب مطالب بتناول أطعمة معينة، وبارتداء ألوان معينة في الزي!

تنافر معرفي

تصادمت هاتان النظرتان للقانون الإلهي وجهاً لوجه بعدما قرر في سن 23، احتلال الطرف الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. أدى ذلك إلى تدفق الأفكار الهلنستية من اليونان إلى دول الشرق الأدنى القديم، وخلق هذا تنافرا معرفيا لليهود الذين عاشوا تحت الحكم الهلنستي؛ لقد انزعج اليهود لأن اليونانيين قد رفضوا رؤيتهم للوحي الإلهي. فقد اعتبر اليونانيون الكتاب المقدس العبري مجرد مجموعة من القوانين الوضعية البشرية. فبالنسبة للفلاسفة اليونانيين، لا يمكن أن يكون القانون الإلهي مكتوبا، وموجها لمجموعة من البشر هكذا، بل يجب أن تستشعره النفس الإنسانية بشكل طبيعي، لا بفرضه فرضا. فالقانون الإسرائيلي، كونه مرتبطًا بشعب، وملك، وأرض، ويتغير بتغير الأحوال، فمن الصعب أن يصنف إلهيًا.

فيلون السكندري وبولس الرسول

حاول فيلون السكندري مجاراة الرأي اليوناني، وقال إن الوصايا العشرة تتوافق مع مبادئ الطبيعة الأبدية؛ لأنها لا تتغير. وهي غير مكتوبة؛ لأنها قائمة منذ الأزل بغض النظر عن قصة شعب بني إسرائيل التي تمثل الإطار الذي وضعت فيه هذه القوانين. فالمهم هو أن التوراة تبدأ بقصة خلق العالم. فرواية الخلق تثبت أن التوراة حقًا تخص البشرية جمعاء. كما أكد فيلون على أن التوراة المكتوبة هي فقط “نسخة” من الحقيقة الأزلية غير المكتوبة.

كان بولس يهوديًا فريسيًا في القرن الأول، ولكن على عكس فيلون، قال إن شريعة موسى لا تمتلك السمات المميزة للقانون الإلهي الطبيعي؛ فهي تحتوي على خصوصيات لكونها الدستور المكتوب لشعب معين، وبعض قوانينها تعسفية وغير عقلانية إلى حد كبير.  دعني أقول إن فيلون وبولس يتفقان في قبول التعريف اليوناني للوحي، ولكنهم اختلفوا في تصنيف القانون التوراتي؛ كان فيلون مقتنعًا بأن التوراة قانون إلهي. أما بولس، فقد قام بخطوة معاكسة حين قال إن قانون موسى كان قانونًا وضعيا إيجابيا، لكنه ليس أبديا وملزما للجميع. فالأمم بإمكانهم الدخول إلى المسيحية دون الحاجة إلى التهود.

مغالطات منطقية في التوراة

تنحرف التوراة أحيانًا عن الحقيقة المنطقية، ولا تتوافق دائمًا مع الواقع المادي أو الحقائق الطبيعية. ويقر معلمو التوراة بهذا. والبعض يقول إن المنطق البشري عليه أن يتوافق مع التوراة، لا العكس.

حتى أن الأدب الحاخامي يحتوي على نص من القرن الثاني يقبل فيه “جمليئيل”، عن علم، شهادة زور حول مراحل القمر، أثناء ضبطه للتقويم. وكان على الناس وقتها القدوم إلى المحكمة والإدلاء بشهادتهم بخصوص رؤيتهم للقمر، ليتحدد متى يكون اليوم الأول من الشهر القمري. وكان ذلك مهمًا؛ لأن الاحتفالات والأعياد كانت تقام وفقًا لهذا التاريخ، مثل يوم كيبور (يوم الغفران) على سبيل المثال. ومن الناحية الفلكية، لا يمكن أن يرى شخص القمر الجديد في الوقت الذي لايزال القمر القديم فيه موجودا. لكن “جمليئيل” قبل هذه الشهادة وصدق أنه من الممكن أن يتواجد القمران معا؛ فالقانون الإلهي لا يخضع للمنطق، وعلينا أن نتوقع حدوث أشياء غير منطقية: اثنان واثنان لا يجب أن تساوي أربعة!

كما يرى المفسرون أن القوانين غير المنطقية في التوراة، مثل تحريم الملابس ذات الانسجة المختلطة وتحريم تناول الخنزير، تعد فرصا للإنسان لممارسة الطاعة. رغم غياب المنطق، يمكن للإنسان أن يقول: نعم أرغب في أن أرتدي أنسجة مختلطة، وأرغب في تناول الخنزير؛ لكنني سأطيع أوامر الرب التي لا أفهمها. وتلك القوانين التعسفية هي قوانين التوراة الإلهية، حسب هذا الرأي، لأن القوانين المنطقية، الفطرية مثل “لا تقتل” موجودة في كل الدساتير والأديان.

مقاييس إنسانية للحقيقة

يتسامح المفسرون اليهود مع التشريعات والقوانين إذا كان التهاون مع الوصايا سيحقق هدفا إنسانيا نبيلا. معظمنا يعرف تلك القضية الشهيرة حين يختفي زوج إمراة أو يفيد بعض الشهود بوفاته، ثم يعود بعد مدة ليجد زوجته متزوجة من شخص آخر. يرى المشرعون في هذه الحالة أنه لا يجب إنهاء زواج المرأة الجديد رغم عودة زوجها السابق. لقد تكررت هذه الواقعة في “أوهايو” منذ عشرة سنوات، وحكمت المحكمة باستمرار ونهاية الأول؛ بعد غياب الزوج لمدة ثلاثين عامًا.

فهناك مقاييس أخرى للحقيقة الإلهية يجب أن نأخذها في الاعتبار.

ليست في السماء.. بل هنا والآن

يقول المفسرون إن التوراة لم تعد في السماء بعد، بل هي هنا بيننا.

لَيْسَتْ هِيَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى تَقُولَ: مَنْ يَصْعَدُ لأَجْلِنَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَأْخُذُهَا لَنَا وَيُسْمِعُنَا إِيَّاهَا لِنَعْمَلَ بِهَا؟

(سفر التثنية 30: 12)

بمجرد تلقينا للتوراة، أصبح لنا الحق في تفسيرها وتشكيلها. ووفقا لل، يكمن السبب الرئيسي لتدمير أورشليم في التمسك الشديد بنصوص التوراة؛ لذلك، فالقاضي العادل يجب أن يرخي يده قليلا وهو يطبق النصوص الإلهية، ويفكر في عدة مبادىء بخلاف الحقيقة، مثل الرحمة، والتسامح، والسلام، وفعل الخير. وفي أحيان كثيرة، يجب أن يفضّل هذه المبادئ على المكتوب.

كما يذكر التلمود أن الله أيضا لا يتشبث بالتوراة وهو يصدر أحكامه العادلة. فهنالك ذلك التقليد الشهير الذي يصف ما يفعله الله خلال يومه. فهو يبدأ الثلاث ساعات الأولى من النهار بقراءة التوراة، وهو جالس على كرسي الحقيقة، ثم يذهب ليجلس على كرسي الرحمة في منتصف اليوم ليصدر أحكامه التي يوازن فيها بين الحق والقيم الأخرى، وهذا هو الوقت الذي يتمنى فيه الجميع أن يحكم الله في أمورهم (من كرسيّ الرحمة، ﻻ من كرسيّ العدل). وهناك عدة قصص في التلمود تصور الله كقاض في محكمة يناشد هيئة الدفاع بالتوصل إلى وسائل تهزم عدله؛ لأنه لا يريد أن يحكم بالعدل، بل بالرحمة.

“جيتين”: التعديلات التي أجراها البشر على كلام الله

وفقا للتقليد اليهودي، لا يجب أن نعد القانون الإلهي ثابتا وجامدا، بل على العكس، هذا القانون -لأنه إلهي- يجب أن يتغير ويتشكل عند تطبيقاته بواسطة البشر. هذه المرونة هي دليل ألوهيته. ففي كثير من الأحيان، يقرأ الحاخامات القانون الإلهي ثم يقولون: لدينا رأي أفضل مما قرأنا. ويوجد كتاب كامل في التلمود يسمى “جيتين” نجد فيه قائمة بالأحكام الإلهية والتعديلات التي أجراها الحاخامات عليها. فالتقليد يؤكد أن الله يسمح للمفسرين بتعديل أحكامه، وهذا هو دورهم الذي يتوجب عليهم القيام به؛

على سبيل المثال، رغم أن الشريعة تسمح للرجل بإلغاء عقد الطلاق دون إخبار الزوجة، منع الحاخامات مثل هذا التصرف؛ لأنه سيثير مشاكل مجتمعية. كما عدل المفسرون الشريعة الخاصة بتحرير العبد من سيّد واحد -إن كان لديه سيّدين- ليصبح نصف حر، وأصبح إلزاما على السيّد الآخر تحريره ليصبح حرا بالكامل؛ لأنهم رأوا أن نصف حرية ستسبب عدة مشاكل للعبد في الزواج؛ فهو لن يستطيع الزواج؛ لا من عبدة ولا من حرة.

فالإنسان يعد شريكا أساسيا في نقد القانون الإلهي بغية تحسينه؛ وفي سبيل هذه الشراكة الإلهية-الإنسانية، لم يعطنا الله قانونا كاملا بشكل نهائي. هكذا دافع المفسرون اليهود عن الوحي التوراتي أمام الفكر اليوناني.

يمكننا أن نقول أنّ المفسرين يجادلون مع الله بخصوص القوانين باعتبارهم مختبرين حقيقيين للحياة على الأرض، هم يعملون مع الله لمساعدته، لا لأنهم يجدون القوانين خاطئة؛ بل لأنهم يجربون معه مدى صلاحية هذه القوانين لهم. وهم يؤمنون أن الله أعطاهم الحق والسلطة ليقولوا له في أي وقت: يارب لقد جربنا هذا القانون، ووجدنا أنه لم ينفع معنا. لذلك، يبقى الوحي عملية مستمرة من التواصل بين الله والإنسان.

المدراش: موسى يعلم الله درسا!

هناك كتاب حديث النشر لـ”دوف فايس” يدعى “Pious Irreverence” (تقوى بلا خضوع) يقدم فيه الكاتب مجموعة من القصص في الأدب اليهودي يصحح فيها الإنسان أحكام الله. في بعض الأحيان، يرد الله على النقد الموجه إليه بحجج قوية، وفي أحيان أخرى، يقبل النقد، ويعدل أحكامه، وبشجاعة أدبية لافتة للانتباه، يعترف الله أن رؤيته بحاجة إلى التعديل، وأن الإنسان على حق.

ولدينا المثال الشهير حين جادل موسى مع الله بخصوص قانون العقاب الجماعي. قدم الله نفسه إلى موسى قائلا إنه لا يكتفي بمعاقبة جيل واحد على الخطيئة.

مُفْتَقِدٌ إِثْمَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ، وَفِي أَبْنَاءِ الأَبْنَاءِ، فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ

(سفر الخروج 34: 7)

لكن، يبدو أن موسى لم يقتنع بهذه الفكرة، فهو يصرح علانية بعد ذلك:

لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأَوْلاَدِ، وَلاَ يُقْتَلُ الأَوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ. كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيَّتِهِ يُقْتَلُ

(سفر التثنية 24: 16)

يقول “دوف هايس” إن المفسرون احتاروا في تفسير عبارة “موسى”؛ أهو يتحدث إلى الشعب أم إلى الله؟ ففي المدراش، هناك نص يقدم حوار تخيلي بين الله و”موسى” في محاولة تفسير معارضة الله لـ”موسى” بالنسبة  لقانون العقاب. يقول “موسى” لله في هذا النص المدراشي، إن “تارح” كان عابدا للأصنام، لكن “إبراهيم” ابنه كان بارا يخشى الله. فكيف نعاقب الأبناء على جرم الآباء؟ ليقول الله لـ”موسى”:

لقد علمتنى شيئا جديدا يا موسى. سأغير عهدي، وأثبت ما قلت

( Midrash / Numbers Rabbah II)

لذلك، نجد “حزقيال” ينص فيما بعد على قانون العقاب الفردي:

اَلابْنُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الأَبِ، وَالأَبُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الابْنِ. بِرُّ الْبَارِّ عَلَيْهِ يَكُونُ، وَشَرُّ الشِّرِّيرِ عَلَيْهِ يَكُونُ

(سفر حزقيال 18: 20)

وفقا للمدراش، هذا التحول، كان بفضل إقناع “موسى” لله.

هذه الصورة عن القانون الإلهي المتطور تبتعد كل البعد عن الوحي عند فلاسفة اليونان. فبينما يرى فلاسفة اليونان أن الوحي لا يمكن تغييره وأن دور الإنسان هو الخضوع للقانون الطبيعي الذي يسري سواء شاء الإنسان أم أبى، يرى التقليد اليهودي أن القانون الإلهي الثابت هو قانون ميت. لكن، مع الأسف، لقد تأثر اليهود الأرثوذكس بالمفهوم اليوناني عن الوحي، فصاروا يجمدون قوانين التوراة ويصبغونها بصبغة هيلينستية.

 


*) هذا النص مترجم عن محاضرة “” على CNS تحت عنوان: “The ‘Truth' About Torah

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

Christine Hayes

كريستين هايز

أستاذة الدراسات الدينية في Yale University  [ + مقالات ]
[ + مقالات ]