المقال رقم 12 من 16 في سلسلة أيها الأسقف.. من أنت؟
أمران أو قل قضيتان، الأولى ترتبط بحقوق أسقف الإيبارشية، فيما ترتبط الثانية بمسؤولياته، وكلاهما يقع في دائرة عمله الإداري.

وقد لفت نظري إلى القضية الأولى خطاب صادر عن بطريرك الأرثوذكسية، وهي كنيسة شقيقة ضمن العائلة الأرثوذكسية الشرقية، المتفقة معنا في العقيدة والإيمان. وتتعلق باستقالة أسقف إيبارشية لأسباب صحية وقد بلغ من الكبر عتياً، أما الثانية فقد نبهني إليها كاهن قبطي في واحدة من إيبارشيات الصعيد، في أثناء حوارنا حول ذلك الخطاب، حول مد حق التقاعد لبقية درجات ال؛ القمص والقس والشماس المكرس، وكان رأيه الذي أوجزه في كلمات قليلة:

“إذا تقاعد الأسقف فله بيته؛ قلايته في الدير الذي ترهبن فيه، حيث يتوفر له الإقامة والإعاشة والغطاء الطبي، أما الكاهن (القمص والقس المدني) فمن يدبر له معيشته والتزاماته الحياتية له ولأسرته، خاصة وهو في سن يفتح الباب على مصراعيه لأمراض الشيخوخة لتقتحمه وتكلفة مواجهتها باهظة، فيما تقلصت موارده واختزلت إلى ما تقرره الكنيسة من معاش، يكاد يقترب مما تمنحه لطابور أخوة الرب الممتد.

(كاهن قبطي من الصعيد)

دعونا نقرأ معاً خطاب الأب البطريرك:

بطريركية أنطاكيَة وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، 27 / 12 / 2023

بنعمة الله إغناطيوس أفرام الثاني؛ بطريرك أنطاكيَة وسائر المشرق، الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم.

نهدي البركة الرسولية والأدعية الخيرية إلى حضرات أبنائنا الروحيين الكهنة والشمامسة، ورئيس وأعضاء مجلس الأبرشية ورؤساء وأعضاء مجالس الكنائس والجمعيات وسائر أفراد شعبنا السرياني المبارك في أبرشية السويد والدول الاسكندنافية العامرة.

نكتب إليكم لإعم أننا تسلمنا من أخينا صاحب النيافة مار يوليوس عبد الأحد شابو، مطران السويد والدول الاسكندنافية الجزيل الاحترام، بتاريخ 19 كانون الأول (ديسمبر) 2022، فيها يعلمنا بقراره بالتقاعد من خدمة هذه الأبرشية بسبب وضعه الصحي.

فيما قبلنا تقاعد نيافته، التي يسرى مفعولها بتاريخ الأول من شباط (فبراير) 2023، نثمن عالياً جهوده في خدمة الكنيسة السريانية الأرثوذكسية بشكل عام، وأبرشية السويد والدول الاسكندنافية بشكل خاص خلال السنوات الماضية، ونصلي أن يمد الله بعمره ويكلله بالصحة والعافية.

كما نعلمكم أننا سنقوم بأخذ الإجراءات اللازمة في حينه، وذلك بحسب ما تقتضيه مواد دستور كنيستنا السريانية الأرثوذكسية المقدسة.

ختاماً يطيب لنا أن نهنئكم بمناسبة عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد و، سائلين الله أن تكون هذه المناسبات سبب فرح وبركات لكم جميعاً.
هذا ما اقتضى، والنعمة معكم.

(خطاب بطريرك الكنيسة السريانية)

وفي سياق تقاعد الأسقف في الكنائس الرسولية التقليدية يحضر أمامنا واقعة استقالة الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية البابا (11 فبراير 2013)، ورحيله بسلام عن عالمنا محتفظاً بلقبه وكهنوته في 31 ديسمبر 2022، وهو أمر شهدته الكاثوليكية بمصر سواء على مستوى الأب البطريرك، الكاردينال أنطونيوس نجيب (استقالته: 2013، نياحته 28 مارس 2022)، أو الآباء الأساقفة، وكان أخرهم الأنبا كيرلس وليم مَطْرَان أسيوط، نوفمبر 2021، الذي صرح في أحاديث صحفية أن قوانين الكنيسة القبطيّة الكاثوليكيّة أتاحت للمطران عند بلوغ سن الـ75 عامًا أو لظروفه الصحية أن يتقدم بطلب تخلّي عن مهامه”. [قانون210 من مجموعة قوانين الكنائس (الكاثوليكية) الشرقية].

فيما لا تقبل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية استقالة أو تقاعد الأسقف، تأسيساً على ما يروج أن العلاقة بين الأسقف وإيبارشيته بمثابة زواج لا تنفصم عراه حتى وفاته، وهو تأويل لا يستند إلى مرجعية قانونية، بل إلى أراء أو مقولات تراثية أحادية في سياقات مختلفة، ويصطدم بما تؤكده الكنيسة في تقليدها الصحيح أنها هي “عروس” تُهيأ لعريسها الذي فداها واشتراها بدمه، ولا يستساغ أو تقبل أن تقترن بغيره، وما الإكليروس إلا خدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص، وقد شهدت الكنيسة قبل سنوات وفي حبرية البابا البطريرك الراحل ال وقائع استقالة وإقالة أساقفة أحيل بعضهم للأديرة، فيما هام بعضهم على وجوههم بل وأقيم بدلاً منهم، في الحالين، أساقفة على إيبارشياتهم!!

الربط القسري بين الأب الأسقف وإيبارشيته وأبدية موقعه السيادي كان ضمن توجه إعادة رسم الصورة الذهنية له عند الرعية، فيخرج من دائرة الخادم لها إلى فضاء السيادة المتسع، وقد انعكس هذا على رؤية طيف متنام من الأساقفة لأنفسهم، أنهم فوق النقد وفوق التوجيه وفوق المراجعة، وبنوا العلاقة بينهم وبين رعيتهم على السيادة والصلف وأوغلوا في استخدام المنشار الكبير حسب توصيف أباء الكنيسة الأوائل ونصوص قوانينها التي تحذره من استخدامه، ويشيرون به إلى قرارات القطع من الجماعة (الكنيسة) والحرمان من الشركة، لمن لا يروقهم، وفي غياب الضوابط التي وضعتها الكنيسة وتحتشد بها قوانينها.

غياب القواعد الحاكمة لاختيار وإقامة الأسقف حسب الإنجيل وحسب الخبرات المتراكمة للكنيسة، أفسح المجال لتقدم أهل الثقة على أصحاب الخبرات الروحية والتدبيرية، وتزامن مع معاناة الجماعة القبطية الاجتماعية والسياسية، بفعل نمو نفوذ وحراك الجماعات المتطرفة بامتداد قرن من الزمان، الذي بدأ مع أفول الطور النظامي الأخير من دولة الخلافة، والمعروف بالدولة العثمانية التي أعلن سقوطها، 1923، لتتقلص في تركيا، لتوصف بأنها رجل أوروبا المريض، وما جماعة (1928) إلا واحدة من أبرز مساعي تَرْجَمَة إحياء حلم الخلافة على الأرض، بدعم من القوى العظمى آنذاك، وبدعم من الأنظمة السياسية القائمة وقتها أو التي جاءت فيما بعد، وكان ذروة الدعم والتحالف مع قدوم الرئيس الباحث عن قاعدة شعبية في مواجهة الوهج الناصري، وفي لحظة مأزومة منكسرة.

تفاقم الوضع مع نظام ال، إذ تنجح جماعة الإخوان في حصد 36 مقعداً في برلمان 1987، ويقفز العدد إلى 88 مَقْعَد في برلمان 2005، بتوافقات تترك للجماعة ـ كرأس حربة لتيار ـ التوغل في الشارع المصري في مقابل دعمها لبقاء واستقرار النظام الحاكم. ولعل هذا ما أدار به النظام علاقته بالكنيسة والأقباط، حسب رؤية الدكتور الذي أوجزها في قوله:

“اختزل النظام الأقباط في الكنيسة، واختزل الكنيسة في الإكليروس، واختزل الإكليروس في البابا”.

(دكتور ميلاد حنا)

كانت الذهنية في إدارة الأمرين واحدة، إطلاق يد القيادة الكنسية في إدارة الشارع القبطي في مقابل دعمها لبقاء واستقرار النظام الحاكم. لكن تنامى الطموحات السياسية عند الجماعة وعند القيادة الكنسية، بدرجات تتناسب مع كليهما ومع سقف الطموحات المحكوم به حراكهما وقدراتهما على الأرض، انتهى إلى الصدام بين أطراف التوافقات.

وجد التراجع الثقافي والمعرفي والإبداعي الذي ضرب المجتمع بجملته مع بدايات الثمانينيات من القرن العشرين، وربما قبلها، وجد طريقه إلى الأديرة والرهبنة، فمن يقصدهما تكونت ذهنيته ومنظومته الفكرية في ذاك المناخ، ويمكننا أن نشير إلى تغير النظرة الجيلية للأديرة ـ وقتها وللآن ـ بأنها أماكن آمنة، تضمن ما يفتقر إليه المجتمع خارجها، وقد يحالف قاصدها الحظ فيجد طريقه إلى مواقع إكليروسية متقدمة، إن نجح في أن يلفت النظر إلى ولاءه وخضوعه، وبعضهم لم يكن بحاجة لهذا فهو قصد الدير بتوجيه مباشر من أصحاب قرار الاختيار، ولم يمكث طويلاً بين جدران الدير، حتى لو طالت أيامه داخله، فلن يجد للتلمذة أثراً، ولا للتكوين الآبائي وجوداً. وهو ما يفسر لنا ما يحدث في أروقة الكنيسة من ارتباك معرفي وتعليمي وصدامات أجنحة المعلمين.

أما القضية الثانية والمتعلقة بما أثاره صديقي الكاهن (الإيغومانس) بشأن تقاعد الكهنة من دون الأسقف وضمانات توفير حياة كريمة لائقة بهم، بعد التقاعد، فنحيله إلى مقال تال، يتناول ما تم فيه بشأن سريان التأمين الإجتماعي عليهم، وهو ما نشرته جريدة الوقائع المصرية في عددها رقم 97 الصادر في 27 أبريل 2020، بخصوص “قرار الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي رقم 101 لسنة 2020، بشأن سريان التأمين الاجتماعي على أصحاب الأعمال ومن في حكمهم على القساوسة والشمامسة المكرسين، على أن يسري عليهم الأمر اعتبارا من أول يناير 2020، وهو الموعد الذي بدأ فيه تنفيذ القانون رقم 148 لسنة 2019.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: أيها الأسقف.. من أنت؟[الجزء السابق] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [۱۰][الجزء التالي] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [١٢]
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨