المقال رقم 9 من 16 في سلسلة أيها الأسقف.. من أنت؟
في ظني أن كثيراً من ارتباكات التدبير الكنسي، وازدواجية المعاناة والمغالاة التي تحاصرنا بدأت عندما تحولت المسيحية في منطقتنا المطلة على شرق وجنوب البحر المتوسط وضفتي البحر الأحمر إلى ديانة أقليات، وتحديداً بعد القرن العاشر الميلادي الذي بدأت معه موجات استهداف المسيحيين بالتوازي مع تعريب لسانهم، ما تعاملت معه الكنيسة بواقعية يائسة بأن عربوا الصلوات والطقوس القبطية، وأظنه نفس التوجه الذي تبنته الكنائس السريانية والكلدانية، مع فارق مهم أن  لم تهتم بدعم بقاء القبطية لغة حياة حتى داخل الجماعة القبطية، في حين بقيت لغات الجماعات المسيحية الأخرى حية ومتوارثة في تعاملاتها الحياتية اليومية.

لكن الذي جمع بين كنائس المنطقة الناطقة بالعربية، بالرغْم من تعدد القوميات، هو المغالاة في المظاهر التعبدية وفي هيئة ال الخارجية، ربما لتأكيد الوجود، وكان التشدد القبطي في التعاطي مع الكنائس الأخرى أحد مظاهر مقاومة الذوبان وفقد الهُوِيَّة، في محاولة لاستعاضة غياب اللغة وفقدها، التي هي في واحدة من تعريفاتها “وعاء الفكر والثقافة”، وهي في اقتراب آخر “تمثل هُوِيَّة وتراث وتاريخ الشعب الناطق بها”. وعلى هذا فاللغة القبطية ليست لغة دينية، بل هي النسخة الأخيرة للغة المصرية القديمة، وكان إقصائها هدفاً استراتيجياً عند القادمين الجدد، كان مرحلاً حتى تستتب لهم الأمور وتتراجع أهمية الجزية كمصدر سيادي لخزينة دولتهم. وهو ما تحقق في القرن العاشر وما تلاه.

كان التحول القسري عن القبطية كلغة هو الثاني بعد أن سبقتها اللغة اليونانية التي كانت لغة الثقافة والعلوم واللاهوت في العالم القديم، وفي مصر تحديداً التي قدمت للعالم عبر مداخل وأسس ومدارس الفلسفة واللاهوت في عصريها الوثني والمسيحي، حتى وقع صدام (451م) الذي انحزنا فيه إلى القومية فكان قرارنا مقاطعة اليونانية لحساب القبطية، وتجرعنا مرارات الانقطاع المعرفي الأول الذي تكرر مع التحول للعربية بدءاً من القرن العاشر، وتدخل الكنيسة والأقباط نفق الانقطاع المعرفي مجدداً، وينعكس هذا على وعينا اللاهوتي الذي بقي على قيد الحياة بفضل بقاء الصلوات ال (القداس والتسبحة والطقوس) التي خبأها القبطي في قلبه وعقله، وتناقلتها أجياله المتعاقبة، حتى جاء عليه وقت كان يرددها دون أن يستوعب دقائقها وأبعادها، وبحسب أحد الباحثين اللاهوتيين كان فضل بقاء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لذلك الفلاح المصري البسيط الأمين لتراثه وميراثه، الذي عبر به قرون هذا عددها حتى لاحت إرهاصات الاستنارة.

في تتبعنا لأزمة الكنيسة المُعاشة أمسكنا بخيط منهجها في اختيار قياداتها، الأساقفة والبطاركة، فوجدناها في قرونها الأولى تأتي بهم من علماء وأساتذة مدرسة الإسكندرية، وحين اشتدت الصراعات العقيدية، كانت مدرسة الإسكندرية وعلماؤها هدفاً مرصوداً من القوى المناوئة للكنيسة بدعم من السلطات الحاكمة ـ الرومانية آنذاك ـ فحمل علماء المدرسة كنوزهم المعرفية ومخطوطاتهم ولجأوا للأديرة، احتماء بأسوارها، فذهبت الكنيسة في إثر خطاهم لتختار منهم، ويبقى العلماء بالأديرة، وتستمر الكنيسة في الاختيار من ساكني الأديرة، ويدور الزمن دورته، ويصيب الأديرة ما أصاب المجتمع الكبير خارجها، وتدخل الأديرة نفس نفق الانقطاع المعرفي، حتى أنه في وقت كان المستشرقون يطرقون أبواب الأديرة وعيونهم على مخطوطاتها، يطلبون من مسئول الدير أن يسمح لهم بنسخ تلك المخطوطات، ويقدمون ما نسخوه له ويأخذون المخطوط الأصلي، بأوراقه المهترئة، فتنفرج أسارير الراهب العجوز ويدعو للمستشرق بطول العمر ويطلب له تعويضات السماء.

ويحتار المرء إزاء هذا الأمر، فقد وجدت هذه المخطوطات طريقها إلى مكتبات جامعات أوروبا وأمريكا وهي مكان آمن ربما حماها من أن تكون “وقيداً” لأفران الأديرة، أو طعاماً للفئران والإهمال، أو تدميرها على يد العربان والبربر في غاراتهم على الأديرة، لكن هذا لا يمنع ما يصيب القلب من غصة وألم، قد يخفف منهما توفر خدمة الميكروفيلم في منتصف القرن المنصرم، ما أتاح لبعض الأديرة، المهتمة بالبحث، الحصول على نسخ منها، والباحثون خارجها أيضاً.

متغير نوعي حدث مع انتصاف القرن العشرين وتنامى بشكل مرتب وشكل منعطفاً تاريخياً رسم ما صارت إليه الكنيسة فيما بعد وربما حتى اللحظة ومرشح للبقاء لسنواتٍ عدّة، هو انتباه شباب أربعينيات ذاك القرن لوضع الرهبنة كمدخل وحيد لمواقع قيادة الكنيسة، وهو ما أشرنا إليه قبلاً في أكثر من موضع، ليس فقط في هذا البحث، لكن في العديد من المقالات وفى سلسلة مؤتمرات التيار العلماني السنوية (2006 ـ 2010) وفي ما أصدرته من كتب في حبرية البابا الراحل الأنبا شنودة الثالث، وفي حبرية البابا الحالي الأنبا ، وقد تُرجم هذا الاهتمام بدخول نفر منهم الدير، وتحديداً ثلاثة من نشطاء شباب ، الأستاذ ، والدكتور ، وقصدا الدير عام 1948، والأستاذ وقصد الدير عام 1954، وتبعهم العديد من أبناء جيلهم سواء بتحفيز منهم أو من تلقاء أنفسهم، باعتبار أن رواد الدخول يمثلون طليعة ذاك الجيل وقادته، وينتهي الأمر بوصول الأستاذ نظير جيد إلى سدة البطريركية، بعد سنوات شهدت تحالفات ومواجهات عدّة ومتباينة، تستحق أن تكون محل بحث وتحليل بعيداً عن التربص والموالاة.

اصطحب البطريرك الجديد معه خبراته السياسية التي لم تنجح في تَرْجَمَة طموحاته في عالم السياسة، وكان حريصاً على صناعة أغلبية موالية داخل ، وكانت الرياح مواتية، فأغلب المطارنة وقتها كانوا كهولاً، وإيبارشياتهم مترامية الأطراف، وتضم أكثر من محافظة، وكان رحيل أحدهم يقابل بتقسيم الإيبارشية إلى ثلاث أو خمس إيبارشيات، وكان التفسير، إيبارشية صغيرة لخدمة مركزة، كان اللافت اختيار رهبان لم تكتمل خبراتهم الرهبانية ولم تتح لهم فرصة التلمذة على شيوخ الدير، وبعضهم لم تدم إقامتهم بالدير بضعة شهور، كان المعيار إنهم حاصلون على شهادات جامعية في كليات القمة، بينما لا يقابلها المثيل في الدراسات الكنسية اللاهوتية، وهؤلاء يمثلون اليوم رأس الحربة في مقاومة المراكز البحثية الأكاديمية التي تعمل في دوائر الدراسات الآبائية الأكاديمية.
اللافت في هذه الظاهرة أن الأقل علماً هو الأعلى صوتاً، ويوزع اتهامات الهرطقة ببذخ لافت على كل ما لا يستوعبه.

في كنائس الجوار وعلى الرغم من خلافاتهم التاريخية لكنهم قفزوا فوقها دون أن يفرطوا فيها، إلا أنهم بحثوا عن خيط يربطهم ويمكن أن ينطلقوا منه إلى أن يلتقوا بعد جفاء قرون، فوجدوه في اتفاقهم في أصولهم السريانية، فمنهم خلقيدونيين ومنهم لا خلقيدونيين، أرثوذكس وكاثوليك ونساطرة، واللقاء في هذه الأجواء خطوة مهمة وكبيرة، وأظنها تمهد لمناقشات موضوعية وجادة في ضوء تقدم علوم التحليل النقدي، واتفاق الثقافات، ووحدة الهدف.

ولهذا جاءت الصورة المرفقة تحمل تصور أن تكون كنيستنا ضمن هذه الخطوة وعندها ما تطرحه بتاريخها وثقلها اللاهوتي والبحثي. وتضم الصورة:

1 بطريرك الكلدان في العراق والعالم: الكاردينال
2 بطريرك كنيسة المشرق الآشوريّة في العراق والعالم: مار آوا الثالث روئيل
3 بطريرك أنطاكيَة وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس:
4 بطريرك أنطاكيَة وسائر المشرق للموارنة: الكاردينال
5 بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي:

ثمة ملاحظة أخيرة أن هذه الكنائس لا تقدم أحد إلى رتبة الأسقفية إلا بعد اجتيازه سلسلة من الدراسات النظامية الأكاديمية تمتد في بعضها إلى ما يزيد عن العشر سنوات، يرافقها تكليفه بالخدمة في مواقع كنسية متعددة، تبني خبراته الرعوية والتعليمية، وهو الأمر الذي يجب على كنيستنا الأخذ به في مواجهة الطفرات المعرفية التي تعيشها أجيال الكنيسة الواعدة.

ومازال للطرح بقية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: أيها الأسقف.. من أنت؟[الجزء السابق] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [٧][الجزء التالي] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [٩]
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨