المقال رقم 3 من 8 في سلسلة الإنجيل بعيون مصريّة
يمكن تعريف الاستعمار بأنّه الوضع الذي تصبح فيه دولةٌ مسيطرة على دولة أخرى، ومن ثمّ تمارس عليها سلطة اقتصاديّة وعسكريّة وثقافيّة. قد تكون السيطرة لغويّة أيضًا وقد لا تكون. فعلى سبيل المثال لم تتعرّب بلاد الفرس، وهناك دول احتلّتها إنجلترا ولم تتحدّث الإنجليزيّة نتيجة لذلك.

يبدأ الاستعمار بإنماء شعور قوميّ بسموّه وتحضّره وقوّته عسكريًّا وثقافيًّا، وأحيانًا عرقيًّا، هذا ملخّص عقدة التعالي القوميّة. من جهة أخرى، هناك دولٌ لديها عقدة النقص القوميّة. هذه الدول يتم غزوها فكريًّا ووجدانيًّا حيث يُزرع في مواطنيها دونيّتهم وعدم جدواهم، ينمّي ويكرّس هذا الشعور رُخص حياة المواطن وحقوقه.

تُصبح هذه الدول أرضًا خصبًة لجميع أنواع الاستعمار. بعض الشعوب لديها عقدتان نقيضتان في الوقت عينه، مثلا عقدة نقص أمام الغرب، وعقدة تعالٍ أمام الأفارقة وبعض الدول الناطقة بالعربيّة على سبيل المثال. يمكن أن نلاحظ في مقهى واحدٍ إلى مائدة واحدة كيف يتعامل شخص بعنصريّة بغيضة تجاه شخصٍ وبانبطاحٍ قميء تجاه الجالس إلى جواره.

سرّ التجسّد هل استعمر اللاهوت إنسانيّتنا؟

في التأمّل في سرّ التجسّد، تكمن دائمًا في ذهني مسألة العقدتَين، انبطاح الإنسانيّة أمام الألوهيّة، وانتظار تعالي اللاهوتِ. يُسبغ الإنسان على الله مشاكله التي تشكّلت في العقليّة الاستعماريّة. في هذه الإشكاليّة يجدر النظر بعمقٍ في سرّ التجسّد. في التجسّد، كيف أدّى اللاهوت دورًا في شخص المسيح من غير الانتقاص من كرامته كونه إنسانًا، وكيف أدّى الناسوت دورًا في اللاهوت من غير انبطاح وعقدة نقص؟

تجسّد كلمة الله هو في الأساس كسرٌ لهذه العقد، لكل عقد تعالي وتسامي الآلهة، وكسر ومسك بيد طبيعة الإنسان لرفعها من كلّ انبطاحٍ وعقد نقصٍ: «لا أدعوكم عبيدًا بعدُ بل أحبّاءَ (أصدقاء)» (يوحنّا ١٥: ١٥).

لماذا صار الإنسان صديقًا لله وليس عبدًا؟ ذلك لأن المسيح، الإله الكامل والإنسان الكامل، أطلع الإنسان على «كلّ ما سمعه من الآب» (راجع يوحنا ١٥:١٥).

في العلاقة التي تحترم الإنسان، كونه إنسانًا، بقدر ما يحافظ على إنسانيّته من أي انتهاك، يمكن له الدنوّ من سرّ الله، في المسيح، وتتأسس علاقة حقيقيّة ليس علاقة المنبطح بالقادر، الضعيف بالقدير، بل الحبيب بالحبيب. في المحبّة الجميع متساوون، وفي المحبّة والعدالة تُصانُ كرامة الإنسان. تلك الكرامة، الإنسانيّة تعبّر عنها بصورة جميلة أيقونة قيامة المسيح، التي يأخذ فيها المسيح القائم من القبر يديّ الإنسان. يدي الإنسان: يدُ أدم ويدُ حوّاء.

كلّ محاولة روحيّة لجعل الإنسانِ منحطًّا، ذي عقدة نقصٍ أمام الإله المُحبّ تمهيدٌ للاستعمار بكل أشكاله. مساهمة لاستخدام الإيمان المسيحي لكي يعود الإنسانُ عبدًا ذليلًا أمام آلهة الماضي. وهو بمثابة وضع حبل حول الرقبة ليمسك بزمامه دعاة الاطّلاع على أسرار الله دينيًّا ودعاة التفوّق دنيويًّا وعنصريًّا.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الإنجيل بعيون مصريّة[الجزء السابق] 🠼 التهوّد والفريّسيّة المعاصرة[الجزء التالي] 🠼 لماذا القدّاس؟
جون جابريل
راهب في معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب نقدي: ، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: ، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب ال: ومواهب الروح القدس