رحل القس مكاري يونان كاهن الكنيسة المرقسية بعد خدمة أربعة عقود حظي فيها بشعبية واسعة بين المسيحيين في مصر من مختلف الطوائف والملل. لم تكن خدمة الأب مكاري سهلة على الإطلاق؛ فرغم الشعبية الشديدة التي حظي بها، لم ينل رضاء العديد من الأساقفة الذين حاولوا محاولات حثيثة لقلب الشعب ضده. ولذلك، لم يحصل على درجة "قمص" على الرغْم من استحقاقه لها. فمناداته بوحدة الكنائس وخدمته في مجموعة "حبة الخردل" التي جمعته مع صديقه القس الإنجيلي "سامح موريس" كان لها ثمنها الذي دفعه راضيًا.
“أخطر حاجة بتواجهنا ككنيسة إن البروتستانت بدأوا يلبسوا عمم سودة ويتسللوا إلى الكنيسة. فالكاهن من دول يعمل الاجتماع ويلاقي البروتستانت بيزيدوا فيخاف يقول تعليم أرثوذكسي لا عدد الحاضرين يقل.”
(البابا شنودة الثالث، محاضرة الشركة مع الله، 24/4/1991)
(لا أعلم كيف، فالبروتستانت هم الأقل عددًا من الأرثوذكس وليس العكس!)
وإخراج البروتستانت للشياطين كان أمرا مرفوضا تمامًا بالنسبة للبابا المتنيح، وحين سألته سيدة في الاجتماع عن قسوس الكنيسة الإنجيلية واجتماعات إخراج الشياطين قال:
“أحيانًا الشيطان بيخرج على يد واحد عقيدته فاسدة عشان يشكك الناس في العقيدة الصحيحة. خديها من متى ٧ لما المسيح قال للي أخرجوا شياطين أنا لا أعرفكم.”
(البابا شنودة الثالث – 25/12/1995)
أما الأنبا بيشوي مطران كفر الشيخ الراحل فقد شن ضد القس مكاري يونان حربًا طويلة، وقال صراحة عنه إنه “دجال” و”خمسيني” ويصنع معجزاته المزعومة بالاتفاق المسبق (مقطع1 – مقطع2).
وكان للأب مكاري سجالًا طويلًا مع الأنبا رفائيل أيضًا. فقد اتهمه الأسقف بأن “تعاليمه شيطانية وأن شعبيته لا تعني شيئا؛ فآريوس قد تبعه الكثيرون، أما أثناسيوس فوقف ضد العالم. والعقيدة لا جدال فيها، ويجب أن نتحول إلى أسود ووحوش بقرون للدفاع عنها.” (مقطع3). وهو ما رد عليه الأب مكاري قائلًا إن التحول إلى وحوش من أجل العقيدة لا يفرق عن الجهاد الإرهابي في شيء (مقطع4).
اشتكى الأب مكاري كثيرًا من هذه الحرب واستمر في الدفاع عن إيمانه الأرثوذكسي في عظاته دون ذكر أسماء من وجهوا له تلك الاتهامات. وفي رحيله، لم تنته الخصومة كما كان يجدر بها أن تنتهي. فقد ترأس الأنبا رفائيل الجناز، ولاحظ الكثيرون أنه لم يتحدث عن الراحل إلا بجمل قصيرة استهل واختتم بها عظته التي كانت بعنوان كرامة الكهنوت والتي تحدث فيها عن سلطان الكهنة على البشر، وقال إن بدون الكهنة، لا معمودية (أي لا دخول في الإيمان). كما قال أيضًا إن الكاهن ليس بشخص عادي وله سلطان مختلف. وهو عكس ما كان يعظ به الأب مكاري؛ فهو كان يعلم بقبول معمودية الطوائف الأخرى، وبسلطان جميع المؤمنين على فعل الأعمال التي عملها المسيح.
لم تكن العظة موفقة على الإطلاق (مقطع5)، فربما كان ينقصه أن يختتم عظته قائلًا: وهذه دعوة للبروتستانت الحاضرين في العزاء بالتوبة. اعتلت عيون الحاضرين نظرة اندهاش وحاولوا ابتلاع استنكارهم إلى أن انتهت العظة. نالت العظة انتقادات كثيرة؛ لأن الحديث في مواضيع جدلية ليس مكانه العزاء الذي ينبغي أن يقوم على تعزية الأهل وإكرام شخص المتوفى، لا أن نعظ عن مواضيع عامة كما لو كنا في أي اجتماع عادي. فتخيل أن تذهب إلى جنازة مدرس وتجد الواعظ يتحدث عن دور التعليم في الحياة! دفعت تلك الانتقادات صفحة المركز الثقافي القبطي لنشر صورة الأنبا رفائيل مع ابنة القس مكاري وهو يواسيها، مصحوبة بتعليق “لقطة للأبوة بألف عظة”. كما تجاهلت قناتا سي تي في وأغابي الحدث.
بعد صلاة الجناز أعلنت كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية إقامة حفل وداع لتكريم الأب مكاري، ودعت الأسرة ومحبيه للحضور. وفي الحفل، تحدث القس سامح موريس في عظة بعنوان: “دروس من حياة الأب مكاري يونان” عن الصعاب التي واجهها الأب الراحل في أثناء خدمته بسبب علاقته مع الكنيسة الإنجيلية، مشيرًا إلى أنه لم يتنصل من عقيدته الأرثوذكسية كما اتهمه البعض، كما ألقى عظة أخرى تحت العنوان نفسه في اجتماع الشباب. وألقى حفيد الراحل كلمة عن جده. كما قدم د. شادي جورج شعرا عنه، ورتل الفريق تراتيل الأب مكاري الشهيرة.
أما الأب داود لمعي فلم يعجبه ما جاء في عظة سامح موريس عن الفرق بين الإيمان الواحد والعقائد المتباينة التي يختلف عليها أصحاب الإيمان الواحد، وقال بكل بساطة إنه لا فرق بين الإيمان والعقيدة وهكذا تسلمنا العقيدة مع الإيمان منذ ألفي سنة.
ولا أعرف كيف تكون العقيدة ثابتة على مر العصور؟ فمن المعروف أن الآباء قد اختلفوا كثيرًا بعضهم البعض، كما أن الطقوس والأسرار قد شابها الكثير من التطور والتنقيح.فكما يعرف دارسو التاريخ الكنسي أن سر الاعتراف إلى الكاهن —الذي دخل إلى الكنيسة في القرن الرابع على يد باسيليوس الكبير— كان يتم في العلن قبل ذلك؛ لأن الإنسان لا يخطئ إلى الله فقط ولكن إلى المجتمع ككل. وفي العصور الوسطى (ما بين القرن الحادي عشر والثالث عشرة)، سمحت الكنيسة بإجراء السر بين المؤمن والله دون إعلام الكاهن بأن يتعرف المصلي بأخطائه لله عند مرور الكاهن بالشورية خلال القداس. وهناك العديد من الآباء الأجلاء ممن حكم عليهم بالهرطقة في زمنهم، لعل أهمهم هو القديس يوحنا ذهبي الفم الذي حُرم من فم البابا ثاؤفيلس (385 – 412 م.) بسبب مشكلة الإخوة الطوال (أتباع أوريجينوس، الذي حُرم هو الآخر).
تنيح ذهبي الفم في المنفى، واليوم، لم يعد محرومًا ولا مهرطقًا بل من أهم آباء الكنيسة. فبعد تولي البابا كيرلس الكبير كرسي ما رمرقس، تغيرت النظرة إلى ذهبي الفم الذي حُكم عليه ظلمًا بالهرطقة بسبب مشاحنات شخصية مع البابا ثاؤفيليس. فكيف نتحدث عن الكنيسة باعتبارها جامدة لا تتطور ولا تختلف حول العقيدة! فحتى تحيزاتنا الشخصية تؤثر على العقيدة في أحيان كثيرة! أتخيل نفسي لو كنت أعيش عام 400 م، كيف كنت سأتعامل مع حرمان ذهبي الفم من فم البابا البطريرك؟ هل كنت سأفكر في الأمر بحيادية وأقرأ كتبه قبل أن أحكم أم كنت سأردد ما أسمع كالببغاوات “ذهبي الفم محروم محروم ومهرطق”؟ وكيف نتعامل اليوم مع متى المسكين وجورج بباوي وغيرهم ممن ألصق بهم البابا ال117 تهمة الهرطقة؟ هل نفكر وندرس كتبهم؟ هل من الوارد أن يكون حرمانهم بسبب أمور أخرى غير العقيدة كمعارضتهم لخلاف البابا مع السادات مثلا؟
أما تسطيح التاريخ واختزاله بهذا الشكل فلم يعد يتوافق وعصرنا الحالي بسبب الثورة المعلوماتية التي يتميز بها. فشباب اليوم لديه من الوعي ما يكفي ليعرف تاريخ كل العقائد وكيف اختلف الآباء حولها. وكم هو معثر أن تعلم الكنيسة الشعب أن العقيدة لا تتطور ليصدموا بقراءة التاريخ واكتشاف العكس. أليس من الأفضل أن تقول لهم الكنيسة بصراحة بدلا من أن يعرفوا من الخارج؟ أتذكر ذلك الشاب الذي حكى لي عن صراعه وتفكيره في ترك المسيحية بعد اكتشافه لاختلافات الآباء قائلا: “أنا مكنتش أعرف بالتناقض ده، وكنت فاكر العقيدة ثابتة مش بتتغير كل شوية حسب رأي كل واحد”. فهذا الشاب قد تربى منذ نعومة أظافره على الفكر الأصولي المتطرف الذي يساوي بين الإيمان والخلافات التفسيرية. بالطبع، لو وجد هذا الشاب من يقول له إن الآباء قد اختلفوا في أفكار وتفسيرات بعيدة عن صلب الإيمان لما صدم لهذه الدرجة؛ فهو لا يعرف الفرق بين لب الإيمان وما يحيط به من اجتهادات بشرية.
أما عن خدمة القس مكاري لإخراج الشياطين وشفاء المرضى، فقد تضاربت الآراء حولها أيضًا، فصراع العلم والإيمان المعهود قائم منذ قرون ولن ينتهي إلا بانتهاء الدهر. بشكل شخصي، أؤمن بوجود كائنات روحية لها حرية الاختيار بين الخير والشر والقدرة على الإيذاء والضرر، كما هو الحال مع الكائنات الأرضية. وأؤمن بوجود معجزات، ولا أرى أن ذلك يتنافى مع العلم في شيء — إن آمنا بوجود إله أعلى من الطبيعة. وأرى أن العالم الروحي أعمق بكثير من أن نعلم كُنهه بشكل كامل. وحتى العالم المادي ليس معروفًا كليا بالنسبة لنا، فكيف نجزم بعدم وجود شياطين وكأننا ذهبنا في رحلة إلى العالم الآخر وعدنا لنحكي ما شهدناه ونتهم كل من يعلم بوجودهم وتأثيرهم بالشعوذة والدجل؟
ومن ناحية أخرى، لا تعني معجزات إخراج الشياطين في الكتاب المقدس وجود شياطين بالمعنى الحرفي (أي كأشخاص، وأجناد، ورتب). وثمة مسيحيون وآباء لم يؤمنوا بوجود شياطين بالمعنى الحرفي، بل بوجود الشر بشكل عام كنتيجة لغياب الخير. (كما هو الحال مع النور والظلام).
وفي وقت المسيح، لم يعرف البشر علم النفس الذي ظهر مع فرويد في القرن العشرين. ولذلك، من الطبيعي أن يترجموا أي مشكلات نفسية مثل ازدواجية الشخصية، والجنون، والصرع، والضلالات على أنها مس شيطاني. فربما هكذا رأي الرسل المرضى المعذبين بمشاكل نفسية، فصلوا لكي تخرج هذه الأمراض منهم باعتبارها أرواح شريرة، واستجاب الله وأبرأ المرضى من مرضهم دون شرح طبيعة المرض لهم لأن ذلك لا يهم، وبعيد عن استيعاب العقل. وليس الكتاب المقدس بكتاب علمي ليعطي تفسيرات علمية لكل مرض. لذلك، إن كنا لا نؤمن بوجود مس شيطاني، لا ينبغي أن نتسرع في الحكم على القس مكاري وغيره بالدجل. فهو يرى الأمر من منظور كتابي بسيط دون تعقيدات أخرى. فرجل الدين يترجم المرض على أنه مس روحي، والطبيب يترجمه على أنه مشكلة عصبية.
وفي نهاية الأمر، سواء كان هناك مس شيطاني أم لا، لا ينبغي أن نركز على الشيطان ونعطيه أكبر من حجمه. يكفي أن نركز على الله وسلطانه. وبشكل شخصي، لا أعلم إذا كان للسحر وإبرام التحالفات مع الشيطان التي نسمع عنها مفعول حقيقي أم لا، ولا أعلم هل يمكن أن يمس الشيطان بعض الناس ويتحكم فيهم بهذا الشكل أم لا. ولدي تساؤلات حول الأمر، ولا أصدقه بشكل كامل.
ورجوعًا للأب مكاري، يكفيه أنه عاش كارزًا بالمسيح ورسالته كانت الحب والانفتاح على الآخر. ويكفيه أننا لم نسمعه يتحدث بالإساءة عن أحد طوال حياته. ورغم أني لم أكن من متابعيه، ولم ترق لي الكثير من أراءه وعظاته، لكنني رأيت فيه شيء مختلف. ويكفيه أنه كان يرفض التمجيد الشخصي وإكرام الناس.
بالطبع، لم يخلُ الأمر من الانحرافات الشعبوية؛ فبعض الأقباط تعاملوا معه وكأنه ساحر ينبغي أن يحقق لهم أمنياتهم، فتجد من تضع المياه المقدسة للدجاجة لكي تُشفى، ومن يلقي بالدواء جانبًا ويكتفي بوضع المياه أمام شاشة التلفاز في أثناء الاجتماع، بالإضافة إلى التبرك من القس مكاري خلال عبوره، ونسيان أن صلاة الإيمان هي التي تشفي المريض. التقيت بمن صلوا معه وشفيوا وبآخرين ممن لم ينالوا الشفاء؛ لأن الأمر ليس مرتبطًا به بقدر ما هو مرتبط بإرادة الله وبالإيمان؛ الله لن يمنعك من نوال الشفاء لأنك لمن تجد قديسًا يصلي لك.
ولا أنكر وجود الدجل باسم المسيح، وانتشاره في الكنائس (وبالأخص في الغرب) كالمرض العضال، لكنني فقط أدعو إلى الإنصاف والفحص قبل إصدار الأحكام. كما أدعو إلى التعقل في التعامل مع صانعي المعجزات باعتبارهم بشر لهم أخطائهم ونواقصهم. وصنع المعجزات ليس هو العلامة الفارقة على القداسة – بل الحب والاتضاع.
اقرأ أيضا: