من الأمور المتكررة دائمًا عند الحديث عن حرية المرأة وخاصة حريتها في اختيار مظهرها دون أن تجبر على التوافق مع المعايير اﻷصولية المحافظة؛ أن يلجأ محاورك إلى جملة شهيرة ألا وهي:
“انتوا عاوزين تقلعوا!“
جملة عبقرية جدًا، لأنها -على الرغْم من قصرها- إلا أنها تحمل في داخلها مجموعة مركبة من أساليب التلاعب النفسي للسيطرة على تصرفات وأفكار الشخص المقابل. بها تهويل مقصود، وتسطيح متعمد لقضية عميقة، واتهام غير حقيقي، هدفه تشنيع أخلاقي منحط، يؤدي إلى إرهاب فكري لتهديدك وإجبارك على اختيار الصمت مكرها.
الخنوع مقابل السلامة
يسترعي انتباهك تكرار هذا النمط كثيرًا، فعندما تتحدث عن تحرير العبيد، يخيفونك بانهيار النظام الاجتماعي والاقتصادي؛ حرية الاعتقاد ستؤدي إلى انتشار الإلحاد؛ حرية الإنسان تؤدي إلى الفوضى… إلخ. ولا استثني الأقباط المسيحيين من استخدام تلك الفزاعات في سجالاتهم، خاصة في أمور الأحوال الشخصية.
فكلما تحدث شخص ما عن وجوب رفع قبضة المؤسسة الكنسية في تحكمها المجحف والغير إنساني بالمرة عن ملف الأحوال الشخصية، وإتاحة خيارات أوسع وأكثر مدنية؛ يتم اتهامك بنفس النبرة: “انتوا بتشجعوا الناس على الطلاق!” وما يليها من ادعاءات أننا “خرابين بيوت”. ورغم تفنيد هذه النقاط سابقًا؛ إلا أنهم يستمرون في إلقاء نفس التهديدات عمدًا. فهدفهم ليس الحوار أو المناقشة بل إسكاتك. إن رفع نير العبودية عن كاهل الجموع هو أكبر مخاوفهم. فالحرية مسؤولية ثقيلة جدًا وإن حصل الآخرون على حريتهم فهذا يزعج فريق “سكينتي في عبوديتي”.
أسمها زوي.. في الثالثة عشر من عمرها.. جلست أمامي ذراعيها متقاطعتين.. وجهها عابس.. وكأنها رهينة مخطوفة مجبرة على جلسة العلاج النفسي.. وبعد محاولات فاجأتني قائلة:.. سأكون مستعدة للعلاج إن وعدتني بشئ واحد.. قلت لها ما هو؟! .. قالت أن تقنع والدي أن ينفصلا أحدهم عن الآخر!(شون جروڤر، بتصرف)
أحد الفزاعات التي يستخدمها الأصوليون وكأنها ابتكار لم تلتفت إليه البشرية؛ هو أن الطلاق مؤذٍ للأطفال، وأن الاستمرار في زيجة سيئة هو تضحية عظيمة من أجل سلامتهم. وهنا أعود إلى مقالة د. “شون جروڤر” حيث يشير نصًا
Whether divorce hurts or helps children depends on how it is handled by their parents, but one thing is certain: Staying in a toxic marriage is certain to cause children more damage than good
(Sean Grover)
كون الطلاق حدث يؤذي أو يفيد الأطفال يعتمد كلياً على كيفية تعامل الأبوين عبر الطلاق، بينما هناك شيئ واحد مؤكد: ألا وهو أن بقاء الأطفال في زواج غير سوي [سام] يؤذيهم ويسبب لهم ضررا أكبر.
(شون جروفر)
ويستفيض في شرح بعض مساوئ نشأة الأطفال في أسر الأبوين فيها ليسوا على وفاق وعلاقتهم الزوجية غير صحية. فأنت تفترض أن الأطفال لا يعرفون ولا يعون ما يحدث وهذا عكس الحقيقة تمامًا؛ ربما لا يمكنهم تحليل ما يعايشونه بشكل ناضج ولكنهم يلاحظون ويتفاعلون بشكل أعمق وعلى نطاق أوسع بكثير مما تظن.
ويسهب معدداً بعض الأعراض التي تظهر على الأطفال من خلال تجربته في علاجهم كالتوتر المزمن – الشعور المشوه بالذات – الخوف من الحميمية – الاضطرابات المزاجية. جدير بالذكر أن الطفلة زوي المذكورة في القصة أعلاها حققت تقدماً وتطوراً صحياً كبيراً بعد طلاق أبويها.
النص المقدس وتفسيره
تطرقنا سابقاً لإشكاليات كثيرة في التفاسير المتاحة. ولكني أود هنا أن أتطرق إلى انتقاد الآلية المستخدمة، وسألجأ إلى مشهدين تخيليين نشرهما أحد الأصدقاء على صفحات فيسبوك.
مشهد١: ليل داخلي… صوت المذياع مرتفع وسط ضجيج وصخب شوارع القاهرة المزدحمة التي لا تعرف الهدوء، وفجأة يتعالى صوت منفر يهز أرجاء المدينة قائلًا:
– لا طلاق إلا لعلة الزنا
= يعني يا فلان لو زنى تطلق؟
– أيوة
= ليه؟
– عشان فيه نص
= يعني لو فيه نص خلاص اشطة؟
– أيوة
= طيب هو اللي بيشتهي ست تانية على مراته بيبقى زنى بيها ولا لا؟
– (صوت صرصور الحقل في ليلة شتاء قارصة البرودة)
= زنا ولا لأ؟
– أيوة زنا
= يعني مراته تتطلق؟
– لأ مازناش
= يعني النص نركنه على جنب؟
– لأ ما ناخدش هنا النص حرفي في إن اللي يشتهي يبقى زنا
= يعني ما ناخدش برضه لا طلاق إلا لعلة الزنا حرفي!
– لأ ناخده
= يبقى ناخده
مشهد٢: نهار خارجي على ضفة بحيرة مليئة بحشرات عجز العلم عن تصنيفها، حيث تتراقص أنغام الربيع الدافئة مع أصوات بعض العصافير المغردة المحتضنة تلاطم الأمواج على ضفتي البحيرة، وفجأة يتعالى الصوت المنفر من جديد:
– لا طلاق إلا لعلة الزنا
= طيب وإنكار الإيمان؟
– تطلق طبعا
= ايه ده! هو فيه نص بكدة؟
– زنا حكمي او زنا روحي في الآخر زنا
= يعني لو انكر إيمانه تطلق؟
– أيوة
= أكيد؟
– يادي الليلة السودا ما قولنا أيوة
= طيب قولي يا أخويا هو اللي ما يعتنيش ببيته أنكر الإيمان؟
– لأ ما أنكرش
= أكيد؟
– لأ أنكر
= استقر بقى
– لأ ما أنكرش .. جواب نهائي
= بس القديس بولس الرسول قال: “وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ.” (1 تي 5: 8)
– لا هو ما يقصدش كدة ما تبقاش حرفي
= بس ده نص! أركنه يعني؟
– متركنهوش إفهم النص وما تبقاش عبد حرف
= هو أنت قولتلي في الاول ليه لا طلاق إلا لعلة الزنا
– عشان فيه نص
= مش شايف حاجة متناقضة؟
– لأ
= يعني الفهم الحرفي إنتقائي وقت ما تحب فيه نصوص تبقى حرفية ووقت تاني ما تبقاش
– م الآخر قداسة البابا شنودة قال كدة وإحنا بنمشي على فهمه
هذان المشهدان المستوحيان من واقع نقاشات كثيرة، يكشفان عن مدى عوار آلية فهم وتفسير النصوص ولي عنقها، للوصول إلى تفاسير ترضي تعصبنا وتعنتنا الغير إنساني، وتنطبق على مختلف الآيات التي يلجأ المتحاورون إلى استخدامها، سواء لإقناعك أو لإقناع ذواتهم. ناهيك عن أن المسيح نفسه رفض أن يؤسس تشريع وشريعة مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِيًا أَوْ مُقَسِّمًا؟
(لو 12: 14) وهم يصرون أن يستعبدوا بتشريعات تنسب زورًا لأسمه.
استخدام الفزاعات تقنية قديمة مملة عفى عليها الزمن وفقدت فعاليتها؛ ويجب ألا نخافكم أو نخاف فزاعاتكم. فإن كانت المطالبة بحرية اختيار الملابس هي دعوة للعري في قاموسك، ف “أيوة، إحنا عاوزين نقلع”. إن كان رفض صورة سادية مريضة للإله في عرفك هو إلحاد ف “أيوة، إحنا عاوزين نلحد”، وإن كانت الدعوة لرفع السيطرة المجحفة للمؤسسة الكنسية عن التدخل في غرفة النوم تشجيع على الطلاق ف “أيوة، إحنا عايزينهم يتطلقوا”. حظ سعيد موفق مع فزاعات أخرى.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- مجلس كنائس الشرق الأوسط والقضيّة الفلسطينية منذ أن تأسس مجلس كنائس الشرق الأوسط عام ١٩٧٤، وهو منشغل بالقضية الفلسطينية، ولا يكاد يخلو أي اجتماع من اجتماعاته من التعرض لهذه القضية، كما عقد المجلس على مدار نصف القرن من الزمان الكثير من المؤتمرات والندوات مطالبين بإقرار السلام القائم على العدل. منذ أسابيع، عقدت اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط اجتماعها الدوري في......