لم تكن دعوة المسيح الانعزال عن العالم وتركه، بل دعا تلاميذه أن يذهبوا إلى العالم بالبشارة المفرحة، وكانت نشأة الكنيسة من هذا المنطلق، وعرفت الكنيسة بأنها "جماعة المؤمنين" أي كل المؤمنين بالمسيح "وأصبحوا جميعًا أعضاء جسد المسيح، والتلاميذ دورهم أن يطبقوا تعاليم المسيح بأن أول الكل أخرهم، وسيد الكل خادمهم، ومع الوقت بدأت الأمور تتطور وشعر التلاميذ أنهم بحاجة لتنظيم أكثر فاختاروا 7 شمامسة من أجل الخدمة الاجتماعية من بينهم اسطفانوس أول شهداء المسيحية، ليتفرغوا بالتبشير بالمسيحية وخدمة الكلمة.

مع مرور القرون بدأت الكنيسة تتحول لنمط مؤسسي هيراركي، بوجود أسقف (بابا) وكهنة في أقاليم ومراكز الكبيرة، مثل روما والإسكندرية وأنطاكية، وبالتركيز على التي ننتمي لها، كان يتم رسامة الأساقفة والكهنة من بين المتزوجين أو من طبقة المعلمين ب وهؤلاء كانوا متبتلين من أجل التفرغ للدراسة والعلم.

في نهاية القرن الثالث الميلادي وبداية القرن الرابع تأسست الحركات الرهبانية مع عصر القديس أنطونيوس في مصر، وبدأت كحركات “عَلمانية” أي ليس لها رتبة كهنوتية “ية” داخل نظام الكنيسة المؤسسي، والرهبنة كما يتم تعريفها هي موت عن العالم، ولها مجموعة من النذور يلتزم بها من يدخل في سلك الرهبنة مثل التبتل والفقر الاختياري والطاعة وعمل اليد، وفي طقس رسامة الراهب يتم تلاوة صلوات التجنيز على الراهب لتأكيد موته عن العالم.

مع مرور القرون جرت في نهر الكنيسة مياه كثيرة، حتى وصلنا للقرن العشرين صارت الرهبنة هي المورد الرئيس لقيادات كنيسة الإسكندرية من الأساقفة والبطاركة، وأدى هذا التداخل لخسارة كل من الكنيسة والرهبنة، فالرهبنة وهي دعوة عَلمانية أصبحت مسيطرة على الكهنوت والمواقع القيادية بالكنيسة. فاليوم يحسب كثير من الرهبان منذ يوم دخولهم إلى الدير لطلب الرهبنة وليس يوم الرسامة متى سيصبح كاهنًا، ومتى سيرسم قمصُا، ومتى سيصبح أسقفًا.

ووصف الراحل الأنبا إبيفانيوس رئيس المقتول غدرًا بيد الراهب المعزول ، رسامة الرهبان كهنة بـ”الكأس المر” في تسجيل صوتي مهم قبل مقتله.

مع  تطورات العصر وتقدم شبكة الطرق ووسائل المواصلات، لم تعد الأديرة بعيدة في الصحراء كما كانت من قبل يصعب الوصول إليها، بل أصبحت جزءًا من المدن واقترب منها العمران، وأصبحت الزيارات للأديرة بشكل دوري ما أفقدها هدوءها وسلامها، ومع التقدم التكنولوجي صار الرهبان يمتلكون سيارات وهواتف ذكية وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تعد الرهبنة موت عن العالم بل انغماس في العالم، بل وصار الرهبان يطلب منهم الخدمة في العالم، في افتئات على دور الكهنة المتزوجين في الكنيسة، الذين تراجع دورهم أمام الرهبان، وأمام رسامة الكثير من الرهبان أساقفة وتقسيم الإيبارشية الكبيرة إلى مجموعة كنائس عددها أقل، وعلى كل منها أسقف.

هناك أزمة أخرى فيمَا يخص الرهبنة تكلم عنها الأنبا إبيفانيوس ووضع لها روشتة علاج، وهي غياب التعليم الأكاديمي عن الرهبنة والرهبان، فالراهب يصبح أسقف وراعٍ ومسؤول عن مجموعة كبيرة من المؤمنين في نطاق جغرافي “الإيبارشية”، وبمجرد أن ينال رتبة الأسقفية يصبح عضو ب وهو صاحب السلطة في التقنين والتشريع الكنسي، وقرار واحد منهم يؤثر على حياة الملايين من المصريين، وللأسف لا يوجد تعليم أكاديمي معترف به دوليًا كما ذكر الأنبا إبيفانيوس يتم بواسطته إعداد الرهبان من خلال الدراسة.

واقترح إبيفانيوس إنشاء معهد لاهوتي أكاديمي يكون معترف به دوليًا في منطقة وادي النطرون -شمال مصر- أشهر منطقة يتواجد بها أديرة منذ القرون الأولى، وتكون مجرد تجرِبة في البداية يمكن تطبيقها في تجمعات رهبانية أخرى.

إذن بشهادة الراحل الأنبا إبيفانيوس، الرهبنة تعاني من مشكلات، وهو كان يضع يده عليها واقترح لهذه المشاكل بعض الحلول، ما يعني أن الجهة التي تعاني من مشاكل لا يمكن أن تدير الكنيسة بأفضل وأنسب  طريقة قبل أن تحل مشاكلها.

الكنيسة (جماعة المؤمنين) تتكون من “إكليروس وعلمانيين، وكما للإكليروس دور في القيادة والرعاية كذلك للعلمانيين دور في الإدارة والمراقبة، من أجل صالح الكنيسة ككل، وتم استبعاد دورهم الرقابي خلال القرن العشرين وما تلاه، أو يتواجد البعض منهم لإكمال الصورة دون دور حقيقي، بل يُنظر إليهم بعين الريبة والشك، وكأن الكنيسة هي ملك لـ”الإكليروس” فقط، ولا يؤتمن عليها بعيدًا عنهم.

ومن المفارقات، أن الراهب غير المتزوج يتدخل في قوانين الأحوال الشخصية ويقرر للمتزوجين كيف يعيشون ويكون حكمًا بينهم في مشاكلهم وأمور حياتهم، وبعدما وضع العلمانيون من خلال لائحة 1938 للأحوال الشخصية، التي كانت أقرب لروح وفلسفة المسيح في ممارسة عمل الرحمة مع الناس، وبها 9 أسباب للطلاق، قرر البابا الراحل ال الثالث بإرادته المنفردة إلغاء هذه اللائحة عام 2008، وقرر أنه “لا طلاق إلا لعلة الزنا”، وتم الترويج بأن هذه العبارة هي نص إنجيلي على لسان المسيح في حين أن النص نفسه ومفهومه يختلف عن هذه العبارة، والنتيجة نسمع طول الوقت عن اختفاء سيدات مسيحيات يعانين من علاقاتهن الزوجية، وحيث تتعنت الكنيسة في إجراء الانفصال، فإنهن يقررن اللجوء لتغيير الديانة، والاختفاء ما يتسبب في مشكلات مجتمعية تهدد سلامة المجتمع خاصة حينما يستغلها المتطرفون.

أخيرًا، أما وأنه توجد مشاكل في الكنيسة، فهذا المقال ليس بدعوة للثورة ضد الرهبنة وقيادات الكنيسة من الإكليروس، بل هو محاولة لتفكيك الوضع القائم ومحاولة فهمه، والحل اقترحه راهب وأسقف هو الراحل الأنبا إبيفانيوس بوجود معهد لاهوتي أو كلية لإعداد الرهبان ما يمكنهم من تأدية دورهم وتقديم الرعاية المطلوبة منهم، لحل المشاكل الأسرية، كما يجب فتح الباب للعلمانيين للمشاركة في إدارة الكنيسة بعودة دورهم الرقابي، وأن يتم فتح الباب لاختيار الأساقفة من بعضهم شرط أن يكونوا دارسين بنفس المستوى الذي اقترحه الأنبا إبيفانيوس بوجود معهد لاهوتي متخصص يدرس بداخله الراهب والعلماني، ولا يكون شرط اختيار الأسقف أو البابا من الرهبان فقط، بل ومن العلمانيين أيضًا، ما قد يساهم في تطور حال الكنيسة للأفضل.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "" () لشبونة 2022.